محاولات للتأثير على القضاء بحجة تأمين حقوق بعض المتضرّرين مادياً
من دون الغوص في تفسيرات “زلّات اللسان” في علم النفس، فإن “هفوة” وزير الإقتصاد راوول نعمة المكتوبة، حث القضاء على اعتبار إنفجار المرفأ حادثاً، لم تحصل بشكل عرضي. بل هي تعكس رغبات الطبقة الحاكمة الدفينة بطمس الحقيقة، ومحاولة “ترميم” الإقتصاد المنهار على أنقاض مبدأ “فرّق تسد”. لكن هل يمكن فعلياً لأي بلد بناء اقتصاده قبل استرجاع مقومات سيادته التي تحفظ أمنه؟
درجت العادة في “لاأدبيات” السياسة اللبنانية التصويب على ملف إصلاحي بغية إصابة هدف إنتقامي شخصي. فلا الإصلاحات تتحقق، ولا تصفية الحسابات الشخصية تصل إلى نتيجة. وعادة ما يذهب “صالح” الملفات الإصلاحية المفتوحة “بعزا طالح” استمرار الفوضى والفساد وعقد التسويات. وهذا ما رأيناه تاريخياً في مختلف الملفات المالية والإنمائية ومشاريع البنى التحتية ومحاربة الفساد. وهو يتكرر حالياً مع التدقيق الجنائي، ومحاولة “لملمة” جريمة المرفأ، بإرضاء فئة من المتضررين على حساب “فكرة” بناء الوطن والنهوض بالإقتصاد. وإن كان بالإمكان تأمين ثمن الأضرار المادية بالتأثير على القضاء، فان الحقيقة وحدها هي ما يعوض على فقدان أكثر من 200 شهيد وآلاف المتضررين جسدياً ومعنوياً. ولا يشفي غليل ذويهم وكل اللبنانيين، إلا محاسبة المسؤولين ورؤيتهم خلف قضبان السجن وليس دفع ثمن زهيد أمام جريمة العصر، وتعويض فئة على حساب أخرى.
إمكانية ضياع الحقوق كبيرة
بغض النظر عن حُسن نية الوزير بتعجيل حصول المتضررين على تعويضات بمئات ملايين الدولارات (1.2 مليار دولار)، أو سوئها بمحاولة شق الرأي العام، واستمالة جزء كبير من أصحاب الحقوق إلى السير بفرضية الحادث، فان ما جرى يعكس اهتراء الدولة ومؤسساتها. والنتيجة في كلتا الحالتين ستكون واحدة: ترتيب “دين موقوف” في ذمة بعض المُؤمّنين، وتعريض البقية لإمكانية ضياع حقوقهم في حال إفلاس شركات التأمين التي يتعاملون معها. كيف ذلك؟ هناك شركات تأمين تعمل على تغطية البوالص قبل صدور التقرير النهائي لطبيعة حادث الإنفجار، مقابل تعهد المؤمّنين على مسؤوليتهم إرجاع المبالغ في حال ثبت أن سبب الإنفجار هو عمل عسكري أو إرهابي. بما يعني بحسب المحامي كريم ضاهر أنه “في حال إفلاس شركة التأمين ستتم مطالبة جميع المستفيدين بإرجاع المبالغ في حال لم تغط شركات إعادة التأمين الحادث. وهو ما سيكون متعذراً على المستفيدين بسبب استعمال هذه المبالغ في الترميم وإصلاح الأضرار، وهذا موضوع بالغ الخطورة”.
الأخطار لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداها إلى غياب الرؤية المستقبلية المرتبطة بوضع البلد “الواقف” على “كف عفريت”. فاحتمال ملاقاة قطاع التأمين مصير البنوك كبير. وانعدام قدرة الشركات على المتابعة بالتسعيرة القديمة، وعجز المواطنين عن دفع الأقساط الجديدة يهددان باستمرارية الشركات، وبالتالي ضياع حقوق المتضررين إلى الأبد. فـ”افلاس القطاع، أو أي شركة تأمين قبل صدور التقرير النهائي لطبيعة الإنفجار، سيحرم المؤمّنين من الحصول على حقوقهم حتى لو كانت النتيجة لمصلحتهم”، يقول ضاهر. “حيث لن يعود باستطاعة المُؤمّن مطالبة شركة الضمان المحلية المفلسة. وشركات إعادة التأمين المولجة بدفع التعويضات ستمتنع عن تسديدها بعد إفلاس الشركة المحلية”.
ما الحل؟
“تجنّب هذا الخطأ القاتل وحماية المتضررين بشكل خاص، ممكنان”، برأي ضاهر. و”هما يتطلبان إتفاقاً جماعياً بين شركات الضمان المحلية ومعيدي التأمين برعاية “لجنة مراقبة هيئات الضمان” في وزارة الإقتصاد. فيصار إلى الإتفاق على وضع مبالغ التعويضات المترتبة على معيدي التأمين بحق المتضررين من الإنفجار في حساب إئتماني fiduciary account، وتحديد المستفيدين منه بالأسماء والمعطيات. هذا المبلغ لا يتحرر قبل صدور الحكم القضائي وتحديد طبيعة الإنفجار. عندها، إذا كان الإنفجار حادثاً غير مفتعل تدفع المبالغ لأصحاب الحقوق. وفي حال ثبت أنه عمل عسكري أو إرهابي مفتعل تستعيد شركات إعادة التأمين أموالها. وهذا ما يضمن من وجهة نظر ضاهر “حقوق المتضررين في حال وقوع شركات التأمين في الإفلاس، من الآن لغاية صدور التقرير النهائي. ذلك أن المبالغ لا تدخل في ذمة شركات الضمان ومعيدي التأمين، بل تكون مضمونة في حساب إئتماني مستقل”.
يحقّق مصلحة الجميع
هذا الطرح يصب في مصلحة الجميع. إذ بإمكان شركات إعادة التأمين الإستفادة من الفوائد التي تعطى على المبلغ الموضوع في الحساب الإئتماني، وتنأى شركات الضمان المحلية بنفسها عن الصراع القائم، والذي كاد يهدد بشرخ في الهيئات الإقتصادية في الأمس القريب، ويُترك القضاء بشأنه بعيداً عن أي نوع من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة. أما المتضررون فيكونون أكبر المستفيدين. “فعدا عن اطمئنانهم على مصير تعويضاتهم، فان الشركة المالية التي تمسك الحساب الإئتماني من الممكن أن تضطلع بعملية تسنيد أي إصدار سندات على الحساب لصالح المستفيدين”، يقول ضاهر. و”بإمكان حاملي السندات وضعها في المصارف والإقتراض عليها بصفر في المئة فائدة بطلب أو تسهيل من المصرف المركزي. الأمر الذي يتيح لهم استثمار القروض في إعادة الترميم مع الاحتفاظ بالمبلغ الأساسي كضمانة للمستقبل”.
إذاً، الحلول التي تحفظ حقوق المتضررين موجودة. وهي لا تتطلب إلا “حك الرأس” بعيداً عن التسرع والتهور وإظهار، عن قصد أو غير قصد، أن ثمن جريمة المرفأ 1.2 مليار دولار. فالإقتصاد لا يبنى على طمس الجريمة ولا يقوم على إخفاء الحقيقة ولا ينهض على أنقاض العدالة، إنما على مشروع وطني متكامل بعيداً من ذهنية التسويات. وفي هذا السياق يحق السؤال عن مصير التحقيقات؟ وأين أصبحت بعد أكثر من ثمانية أشهر على وقوع الجريمة وهل كانت كل هذه الأخطاء والهفوات والمشاكل لتحصل لو تم اصدار القرار بعد 5 أيام من وقوع الإنفجار كما وُعِد اللبنانيون؟ وأين هي بالمناسبة نتائج التحقيقات الدولية، التي لم يبق جهاز أمني عالمي إلا وحضر على أرض المرفأ؟ وألا يشكل إحقاق الحق منطلقاً عملياً يشجع الشركات الأجنبية على الإستثمار في إعادة الإعمار؟
أسئلة كثيرة لا تملك هذه السلطة إجاباتها، وإن علمت فلا شجاعة لها على إظهارها. الأمر الذي يؤكد المؤكد، أن لا بلد ولا إقتصاد ولا إزدهار ولا تعويضات في ظل وجودها، ورحيلها أصبح مطلباً يفصل بين الحياة والموت للإقتصاد والبلد.