الى حين انتهاء لجنة التحقيق من أعمالها، سيبقى الانفجار – الزلزال الذي أصاب مرفأ بيروت وجزءاً واسعاً من العاصمة خاضعاً لروايات متضاربة واستنتاجات متباينة.
غالب الظن انّ النتائج التي سيصل اليها التحقيق اللبناني ستكون هي أيضاً مادة للتجاذب، بعدما جاهَرت قوى سياسية عدة مُسبقاً بعدم ثقتها فيه، داعية الى تشكيل لجنة تحقيق دولية لمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة خلف الانفجار المدمّر.
ومع انضمام رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع الى تيار «المستقبل» ورؤساء الحكومات السابقين بالدعوة الى تحقيق دولي، يكون التاريخ قد عاد 15 عاماً إلى الوراء، وتحديداً الى مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري حين حصل الانقسام الداخلي الحاد بين المطالبين بتحقيق ومحكمة دوليين في جريمة الاغتيال والرافضين لهما. اليوم يتكرر الاصطفاف نفسه من جديد، ولكن مع فارق أساسي عن الأمس، وهو انّ لبنان المنهار اقتصادياً ومالياً لم يعد يتحمّل المزيد من النزاعات والمهاترات السياسية.
واذا كانت الحقيقة والمحاسبة هما أولويتان لا يعلو عليهما أيّ امر آخر في هذه اللحظة، فإنّ لدى اللبنانيين خشية مشروعة من ان تضيعا مجدداً في الزواريب السياسية التي سبق لها أن ابتلعت الكثير من الملفات وحَمت الكثير من الأسماء، ما يضع لجنة التحقيق في انفجار المرفأ ومن خلفها السلطة بمجملها أمام تحدي النجاح هذه المرة في اختبار الشفافية الذي رسبت فيه لجان وسلطات متعاقبة، خصوصاً انّ ما بعد 4 آب لن يكون كما قبله.
وفي انتظار اكتمال الرواية الحقيقية لكارثة بيروت، يكشف مصدر أمني رسمي رفيع المستوى، لـ»الجمهورية»، الوقائع التي يملكها، مشيراً الى انه يرجّح بأنّ عدد المسؤولين عن وقوع الانفجار، والذين يجب أن يُحاسَبوا، يتعدى أصابع اليد الواحدة وهم أكثر من 5.
ويوضح المصدر انّ جهاز «أمن الدولة» استحدثَ مركزاً له داخل المرفأ في النصف الثاني من عام 2018، لافتاً الى انّ عناصر الجهاز اكتشفوا مع بدايات عام 2019 وجود المواد الخطرة في العنبر رقم 12، ولاحظوا انّ هناك إهمالاً ظاهراً وقلة مسؤولية في التعاطي معها.
وإزاء هذه الواقعة، تواصل «أمن الدولة» مع مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية آنذاك القاضي بيتر جرمانوس، وفق المصدر الأمني، «لكنّ جرمانوس اعتبر انه ليس صاحب اختصاص، وأفاد بأنّ قاضي العجلة هو الذي يتولى هذه القضية ويُشرف عليها».
هنا، إتصلت قيادة «أمن الدولة» في اليوم نفسه بمدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات الذي أعطى إشارة قضائية بوضع حارس قضائي وآخر إداري على العنبر 12، وبِسَد الفجوات في بنيته وإقفال أبوابه بإحكام، فيما تولى الجهاز الأمني الاستماع إلى رئيس المرفأ وبعض الموظفين فيه، تِبعاً لمعلومات المصدر الذي يوضح انّ قيادة «أمن الدولة» وجّهت كذلك كتاباً خطياً الى هيئة إدارة المرفأ تُحذّر فيه من تبعات المواد المخزّنة، وهو كتاب وصلت نسخ منه الى عدد من الجهات الرسمية.
ويشير المصدر الامني الى انه جرى في تلك الفترة تحليل المواد الموجودة، «وتبيّن لنا أنها تحتوي على نسبة عالية من النيترات التي تشكل تهديداً فادحاً للسلامة العامة، الّا انّ الصدمة التي شعرنا بها حينها تمثّلت في رفض معظم المعنيين بهذا الملف الحساس تصديق حجم خطورته، وإصرارهم على الاستمرار في مقاربته بخفة».
ويكشف المصدر انّ احد القادة الامنيين الكبار كان مسكوناً آنذاك بهاجسَين:
الأول، احتمال سرقة كميات من تلك المواد واستخدامها في تنفيذ هجوم إرهابي. والثاني، احتمال اشتعالها بفعل اي خلل او ارتفاع كبير في الحرارة مع ما سيرتّبه ذلك من دمار هائل للمرفأ ولجزء من العاصمة.
ولكن كل المخاوف والتحذيرات المسبقة لم تلق الاهتمام المطلوب ولم يتم التعامل معها بالجدية الضرورية، تِبعاً للمصدر الذي يعتبر انّ المسؤولية الأكبر عمّا حصل تقع على بعض القضاء وعلى إدارة المرفأ، مُستبعداً الى حد كبير فرضية الاعتداء الاسرائيلي.
ومن معالم الإهمال الفاضح، كما يشرح المصدر، انّ الإشارة القضائية التي صدرت عن مدعي عام التمييز لم تنفّذ فوراً، «وبالتالي، لم يتم إقفال أبواب العنبر رقم 12 الّا قبل أيام حين تولّى عمال سوريّون تلحيمها من دون مواكبة او إشراف من أحد، علماً انهم غير متخصّصين في التعاطي مع دقة المكان ومحتوياته، ما يَدفع الى التساؤل عمّا اذا كان الانفجار الذي وقع بعد وقت قصير على «التلحيم» هو مجرد مصادفة ام هناك رابط معيّن بين الأمرين».
واللافت للانتباه، تِبعاً للمصدر الامني، هو انّ العنبر 12 لا يحوي «طفايات» أوتوماتيكية، في حين انّ وجودها إلزامي في مثل هذا الوضع، تحسّباً للخطر الذي تمثّله الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم.
ويشدد المصدر على انه لم يكن ينبغي السماح أصلاً بتفريغ حمولة باخرة الامونيوم في مرفأ بيروت بموجب قرار قضائي، وكذلك لم يكن جائزاً بتاتاً أن تبقى لسنوات في المرفأ نتيجة تَخبّط القضاء وإهمال الإدارة.
ويلفت المصدر الواسع الاطلاع الى انّ «أمن الدولة» وَجّه مراسلات سابقة الى الرئيس سعد الحريري، عندما كان رئيساً للحكومة، تتعلّق تحديداً بإهمال وظيفي على صعيد إدارة المرفأ، وليس بملف الأمونيوم.