Site icon IMLebanon

«دولتي فعلت هذا»!

 

على مشارف الذكرى السنوية الأولى، لجريمة تفجير المرفأ وتدمير بيروت في الرابع من أغسطس (آب)، التي تحلُّ بعد نحو من 20 يوماً، يتابع قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار اتخاذ خطوات قضائية متقدمة تركت استحساناً شعبياً واحتضاناً لها، كونها فتحت كوة أمل، رغم كل الصعاب، بأن الحقيقة ستظهر، والعدالة آتية، والمحاسبة ستتحقق. قابلها ذعر يتعدى الجهات التي وضعها الادعاء في خانة المسؤولية المباشرة عما جرى، ليطال كل المنظومة السياسية، بعدما رشحت معطيات عن اعتزام قاضي التحقيق الادعاء بجناية «القصد الاحتمالي لجريمة القتل»، على مجموعة جديدة من كبار السياسيين والقادة الأمنيين.

بعد الجريمة، كتب ناشطون على بقية جدار مواجه للمرفأ: «دولتي فعلت هذا»! كان ذلك أوضح تعبير عن اشتباه سياسي بالجهة المسؤولة عن التفجير الهيولي، الذي أوجد قناعة أنه لم يحدث بالصدفة. لقد أودى بحياة 218 شخصاً وجرح نحو 7 آلاف، وهجّر نحو 300 ألف، ودمّر قلب العاصمة، إلى التروما التي أصابت كل لبنان. من البداية راح المواطنون يطرحون الأسئلة، عن أبعاد الاستهداف على نسيج العاصمة وتركيبتها الديموغرافية، وظلّت من دون أجوبة أسئلةٌ احتمالية عن مستودعات موت أخرى تحت الوسادات! فأتى الادعاء على كل البنية السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية لـ«نظام المحاصصة»، لينقل المسألة برمتها من باب الاشتباه السياسي إلى مستوى الادعاء بالجناية ما يمنح الشعار صدقية كبيرة.

وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار، التوقع المعلن، بأن ينجز قاضي التحقيق العدلي قراره الاتهامي المفصل بحدود شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وذلك خلال فترة زمنية قياسية للتحقيق في جريمة كبرى بهذا الحجم لها الكثير من المسارات والتفرعات، يكون مفهوماً حجم استنفار المنظومة السياسية الأمنية الهادف إلى عرقلة التحقيق حتى إغلاقه، وتثبيت «مبدأ» الإفلات من العقاب من دون الأخذ في الاعتبار أن دماء الإبادة الجماعية لم تجف بعد!

من البداية اُستهدِفَ التحقيق، وكانت محاولات تعطيله علنية، رغم أن منظومة الحكم التي رفضت الاستعانة بتحقيق دولي، هي من قرر التحقيق المحلي وأحالت القضية إلى المجلس العدلي. أطلق الاستهداف «حزب الله» وأمينه العام الذي وصف التفجير بأنه مجرد «حادثة» وطالب بالاكتفاء بالتحقيق الأمني الأولي، بذريعة تأمين التعويضات للجهات المؤمنة وكأنه لا لزوم لتحقيق قضائي ولا ضرورة للعدلية. أدت تلك الضغوط معطوفة على دعوى «الارتياب المشروع» إلى وقف التحقيقات أكثر من شهرين، لتطيح بعدها محكمة التمييز بقاضي التحقيق السابق فادي صوان إثر قرار مثير للجدل، وليصار بعده إلى تعيين طارق بيطار قاضياً عدلياً جديداً، وكان رهان منظومة الحكم أن القاضي الجديد لن يتجاوز الخطوط الحمراء!

خيّب القاضي بيطار آمال منظومة الاستبداد، وهو معروف عنه النزاهة والشجاعة والخبرة والتمكن القانوني من ملفاته، فتبنى المنحى الذي اتبعه قاضي التحقيق السابق صوان فأنصفه، وذهب إلى الفصل بين المسارات الشائكة للقضية: أولها مسار شحنة «نيترات الأمنيوم» التي لم تصل صدفة إلى بيروت ومن هم المالكون الحقيقيون لها. وثانيها مسار الحبكة المرتبطة باستقبال الشحنة، والأدوار السياسية والأمنية والإدارية والقضائية التي أفضت لتخزينها وحمايتها وتسهيل نقل أطنان منها إلى خارج المرفأ بعد التعامي الواسع جداً من أعلى المستويات إلى أدناها عن وضع وسادة موت تحت رأس بيروت وأهلها. وثالثها مسار عملية تفجير الكمية المتبقية وملابساته، كأن يكون نتيجة ضربة جوية مثلاً أو نتيجة تخريب داخلي أو «تلحيم» فإهمال! وأي إمعان في الجريمة التي صنفت ضد الإنسانية، كان هذا المسار مرشحاً لأن يكون حلقة مركزية. فما هي «الشراكة» التي أملت استقبال ألوف أطنان النيترات، ومن طلب ذلك؟ كان بمقدورهم التخلص منها ولم يفعلوا؟ وكان واجبهم حماية المدينة ولم يبادروا؟ وكان بوسعهم حقن الدماء الذكية فتسببوا في إهدارها؟

«كلهم كانوا يعلمون» سرعان ما ظهرت صحة الشعار، وظهرت معه معطيات خطيرة، وهي تقارير أمنية خطية تحذر من خطورة وجود هذه الكمية الضخمة من المواد المتفجرة التي تهدد بتدمير بيروت. وتبين أن كُثراً من كبار المسؤولين السياسيين والقادة الأمنيين إلى إداريين كبار وقضاة تسلموا هذه التقارير! والأكيد أن وثائق القاضي بيطار تضمنت ملف العقيد الجمركي المتقاعد جوزيف سكاف الذي قتل في مارس (آذار) 2017، والأصح أٌزيح، وهو كان صاحب أول تقرير منذ فبراير (شباط) 2014 يحذّر من خطورة الشحنة، ويطالب بإخراج السفينة «روسوس» من المرفأ وعدم تفريغها في عنابره! أمام كل ذلك خرج قاضي التحقيق بما اصطلح على تسميته جناية «القصد الاحتمالي»، ليدعي على كلِّ مسؤول تسلم مراسلة خطية عن هذا الخطر وما يمكن أن ينجم عنه، ولم يبادر إلى أي إجراء ينقذ الأرواح والعاصمة ولبنان. وحده التحقيق يقدم الأجوبة لتظهير الحقيقة، والأكيد لدى المدعى عليهم كل ما من شأنه تفكيك عملية دخول ألوف الأطنان من «نيترات الأمونيوم» إلى مرفأ بيروت، وماهية العلاقات مع الخارج والداخل. فكان الادعاء وطلب أذونات للملاحقة، ولم يتوقف قاضي التحقيق عند رتبة مسؤول أو نجومية آخر. أربك الحدث المجلس النيابي في مسألة إسقاط الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية، هم نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر، فتحول مكتب المجلس إلى هيئة همّها تعطيل العملية القضائية برمتها، وترافق ذلك مع استنفار بعض القضاة لتسخير علمهم وخبرتهم، في البحث عن مبررات وذرائع تعطل منح الإذن بملاحقة كبار الأمنيين، الذين يتقدمهم اللواء عباس إبراهيم، لتتكامل محاولات تثبيت مبدأ الإفلات من العقاب.

تطور خطير أقدم عليه مكتب مجلس النواب رداً على طلب إسقاط الحصانة، وتمثل في تزوير المادة 91 من نظامه، التي نصت على تقديم «خلاصة عن الأدلة» لتبرير الطلب القضائي. غير أن النائب الفرزلي ذهب باسم المجلس إلى المطالبة بـ«جميع المستندات والأوراق التي من شأنها إثبات الشبهات»، أي وضع القاضي تحت طائلة إفشاء سرية التحقيق، واعتبار مكتب المجلس هيئة محكمة والأمر منافٍ للواقع. ومعروف أنه في سابقة جرت عام 1999 أسقطت حصانة النائب حبيب حكيم بعد الاكتفاء بخلاصة عن التحقيق… وسرعان ما جاء الرفض من بيطار استناداً إلى المادتين 91 و98 من نظام المجلس وكلتاهما تؤكد أن المحقق العدلي غير ملزم بتقديم أي مستند أو دليل إضافي… والمجلس مطالب بإسقاط الحصانة!

عشية ذكرى 4 أغسطس يتسع الغليان نتيجة الانهيارات الشاملة، ويزداد هزال المنظومة السياسية الفاقدة للشرعية من الداخل والخارج، فيزداد التصاقها بـ«حزب الله» الرافض للتحقيق والذي يمارس الضغوط العلنية لإقفاله، ما يطرح الأسئلة عن دوره وهو الجهة التي كانت تتحكم في العنابر والأرصفة! لكل ذلك، الأكثرية الساحقة من اللبنانيين أمام تحدي التموضع في قلب المعركة ضد نظام القهر والنهب والقتل والارتهان للخارج، لفرض الدينامية التي تفتح طريق المحاسبة وإمكانية بناء وطن يستحقه اللبنانيون.