بينَ المنطق الدستوري والمُزايدات الانتخابية، يتحرّك طلب القاضي طارق بيطار برفع الحصانة عن عدد من النواب (الوزراء السابقين) لملاحقتهم في قضية تفجير مرفأ بيروت. الخلاف يتركّز حول المرجعية المخوّلة محاكمتهم، إذ تنقسم آراء الكتل النيابية بشأن مثولهم أمام المجلس العدلي أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. فيما نجحت الكتل المؤيدة للخيار الثاني في جمع تواقيع 26 نائباً على عريضة نيابية تفتح مسار المحاكمة، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، أمام المجلس الأعلى
بعدَ رفض المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار طلب الهيئة المشتركة (المؤلفة من هيئة مكتب مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل) تزويدها بمستندات إضافية تتعلّق بالنواب: علي حسن خليل، غازي زعيتر ونهاد المشنوق لرفع الحصانة عنهم واستجوابهم كمُدّعى عليهم في الجريمة، تتجه الأنظار الى الخيارات المتاحة أمام الهيئة العامة لمجلس النواب.
وبينَ الدستور واستثنائية الحدث الذي يتطلّب إجراءات غير اعتيادية، تجرى نقاشات داخِل الكتل النيابية لاتخاذ الموقف الأخير بشأن عدد من الخيارات، علماً بأن ما يُستخلص من نقاشاتها يُظهر تأثير الجو الشعبي الذي يفرض خطاباً مُزايداً على أبواب الانتخابات، في ما يتعلق برفع الحصانات والجهة المخوّلة محاكمة «المُدعى عليهم».
وفيما تنقسم آراء الكتل النيابية بشأن مثولهم أمام المجلس العدلي أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، نشطت في الأيام الماضية الاتصالات لتأمين تواقيع على عريضة «طلب اتهام وإذن بالملاحقة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، استناداً إلى القانون 13 الصادر عام 1990». وتتضمّن هذه العريضة طلب توجيه الاتهام إلى كل من رئيس الحكومة حسان دياب، والوزراء السابقين: يوسف فنيانوس وغازي زعيتر ونهاد المشنوق وعلي حسن خليل. فهذه العريضة تتطلب توقيع خُمس أعضاء المجلس النيابي أي 26 نائباً، وقد نجحت الاتصالات في تأمينها حيث وقّع عليها نواب من كتل: «التنمية والتحرير»، «الوفاء للمقاومة» و«تيار المستقبل» (بعدما جرى البحث بهذا الأمر بينَ الرئيس سعد الحريري ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي خلال آخر لقاء جمعهما قبلَ أيام، وتعهّد الحريري بأصوات من كتلته)، بالإضافة إلى النائب عدنان طرابلسي، تمهيداً لرفعها الى النواب (الوزراء السابقين) المدعى عليهم للرد عليها خلال مهلة أقصاها 10 أيام.
وبعد الرد، يجتمع المجلس النيابي في جلسة استماع، ثم يقرر بالأكثرية إما رد طلب الاتهام، أو إحالة المشتبه فيهم إلى لجنة تحقيق نيابية ينتخبها المجلس «من رئيس وعضوين أصيلين، و3 أعضاء احتياطيين». وبعد انتهاء لجنة التحقيق من عملها، يُعرض الأمر على الهيئة العامة لمجلس النواب، لتوجيه الاتهام بأكثرية ثلثَي المجلس. وفي حال صدور قرار الاتهام، يُحاكم المتهمون أمام المجلس الأعلى المؤلف «من سبعة نواب وثمانية قضاة من أعلى القضاة رتبة (…) ويجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة، وتصدر قرارات التجريم من المجلس الأعلى بغالبية عشرة أصوات». وفي حال نجاح العريضة النيابية في استصدار قرار بالاتهام، تكون هذه المرة الأولى التي ينظر فيها المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في قضية تُعرض عليه.
وبينما تُصرّ «القوات» على المحاكمة أمام القضاء العدلي، تتوجّه الأنظار الى الموقف الذي سيتخذه التيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي في ما بعد خلال التصويت في الهيئة العامة، مع الإشارة إلى أن هذه الكتل الثلاث نفسها سبقَ أن شاركت في إسقاط اقتراحات قوانين تتعلق برفع الحصانات والجهة القضائية التي يجِب أن يمثل أمامها الوزراء في حال إخلالهم بواجباتهم الوظيفية أو اتهموا بارتكابات لها علاقة بالمال.
جرى الاعتراض على التعديل الدستوري باعتبار أنه يحتاج إلى مسار طويل
فقبلَ عام، تقدّم النائب حسن فضل الله بثلاثة اقتراحات قوانين، هي: محاكمة الوزراء الذين تولّوا الوزارة منذ عام ١٩٩٢ أمام القضاء العدلي، تعديل قانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء (القانون 13/90) ليحاكم الوزراء أمام القضاء العدلي في قضايا الفساد (ووقّعها معه النائب هاني قبيسي)، واقتراح قانون تعديل دستوري للمادة 70 من الدستور التي تنص على ما حرفيته أن «لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس. ويحدد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية»، كذلك المادة 71 التي تقضي بأن «ﯾُﺣﺎﮐم رﺋﯾس ﻣﺟﻟس اﻟوزراء أو اﻟوزﯾر اﻟﻣﺗﮭم أﻣﺎم اﻟﻣﺟﻟس اﻷﻋﻟﯽ لمحاكمة الرؤساء والوزراء». ونص التعديل على محاكمة الوزراء أمام القضاء العدلي باستثناء الخيانة العظمى، وقد وقّع على هذا الاقتراح مع النائب فضل الله كلّ من: كتلتَي «التنمية والتحرير» و«التيار الوطني الحر» ونواب مستقلون.
لكن عندما عرض الرئيس نبيه بري هذه الاقتراحات في جلسة للهيئة العامة، تبدّلت المواقف، وجرى الاعتراض على التعديل الدستوري، باعتبار أنه يحتاج إلى مسار طويل. طُلب مناقشة تعديل القانون 13/90، وبعد النقاش تم التصويت على العجلة فسقط الاقتراح، إذ لم يحظَ بتصويت أعضاء الكتل، حتى كتلة «التنمية والتحرير» تمنّع نصف أعضائها عن التصويت. أما «القوات» فلم يصوّت منها إلا النائب جورج عدوان، بينما طالب التيار الوطني الحر بإحالته الى لجنة فرعية برئاسة النائب إبراهيم كنعان. ومنذ ذلك الحين، لم يوضع أيّ من الاقتراحات على جدول أعمال المجلس أو أي من لجانه.
وبالإضافة إلى هذه الاقتراحات، تقدّم النائب حسن فضل الله باسم كتلة «الوفاء للمقاومة» باقتراح آخر يهدف إلى تعديل المادة 61 من قانون الموظفين (المسؤولية الجزائية) التي تحدّد بأن «يُحال على القضاء الموظف الذي يتبيّن أن الأعمال المنسوبة إليه تشكّل جرماً يعاقب عليه، وإذا كان الجرم ناشئاً عن الوظيفة، فلا يجوز ملاحقة الموظف إلا بناءً على موافقة الإدارة التي ينتمي إليها». الاقتراح بالصيغة التي قدمها فضل الله تلغي موافقة الإدارة ويتم الاكتفاء بإعطاء العلم، لكن الكتل النيابية الممثلة في اللجنة رفضت إعطاء القضاء هذه الصلاحية بحجة «إما رفع الحصانة عن الجميع وإما لا».
وللمفارقة، فإن كتلة القوات التي ترأس اللجنة (الإدارة والعدل) كما جميع الكتل، كان لها دور أساسي في إجراء التعديلات التي حافظت على الحصانة مع تعديلات في المهل لتنصّ المادة بعد التعديل على «إعطاء المرجع المختص مهلة 15 يوماً للإجابة على ملف ادعاء، وفي حال لم يفعل يعتبر ذلك موافقة ضمنية على الملاحقة». أما في حال الرد، فتقوم النيابة العامة برفع كتاب الى النائب العام التمييزي، ويعطى بدوره مهلة 15 يوماً، ويعتبر عدم رده موافقة ضمنية، أما إذا رفض فيتحمل هو كقاضٍ مسؤولية عدم الملاحقة».
إذاً الكتل ذاتها التي ساهمت في إسقاط هذه الاقتراحات، هي من ترفَع الصوت اليوم في اتجاه رفع الحصانة والمحاكمة أمام القضاء العدلي لا المجلس الأعلى، فيظهر وكأن الآخرين يريدون تغطية المتهمين أو حمايتهم، بحسب ما تقول مصادر نيابية، معتبرة أن «خطابهم هو خطاب شعبوي من باب المزايدة على أبواب الانتخابات». المصادر نفسها اعتبرت أن «أكبر خطأ ارتكبه المجلس كان في عدم إقرار هذه القوانين سابقاً لأننا اليوم محكومون بهذه المواد. فهناك مسار يخضع له الموظف، ومسار آخر يخضع له الوزراء والنواب، وأي خطوة تتخذ بعيداً عن هذين المسارين تُعدّ مخالفة».
نواب في التيار الوطني الحر أكدوا «التمسك بالمنطق الدستوري مع الأخذ في الاعتبار استثنائية حادث المرفأ»، مشيرين إلى أن «الخلاف اليوم ليسَ على رفع الحصانات أو لا، بل هو على المرجعية التي ستُحاكم. ونحن في التيار نعدّ دراسة دستورية وقانونية سنستنِد إليها لاتخاذ القرار». أما الحزب الاشتراكي فقد لفتت مصادره إلى أن «أمر التوقيع على العريضة جرت مناقشته معنا، لكننا نصرّ على أن تكون المحاكمة أمام المجلس العدلي». بدورها، «القوات» موقفها معروف لجهة «رفض التوقيع على العريضة بالمطلق، والإصرار على أن يحاكم الوزراء أمام القضاء العدلي».