دمُ الضحايا لم يَجف وغضبُ بيروتَ لم يبرد.. ومناورات المنظومة لن تنتهي!
حلّ 4 آب الذي بات تاريخاً، أو بمعنى أصحّ، جُرحاً، يختصرُ كل التواريخ والآلام والاستحقاقات، في لبنان القابع في وسط الكوارث، الإجرام وغياب العدالة، الوباء، الفراغ الحكومي والدستوري، الإفلاس، الجوع، العتمة، والحرائق.. وقبل كل ذلك وبعده، الطبقة السياسيّة الفاسدة والوقحة جداً.
عامٌ كامل وأهوال الكارثة التي أصابت بيروت وناسها تتكشف تباعاً، وجرحها يزداداً نزفاً مع مساعي سَوق التحقيق في الجريمة / المأساة، رغماً عن أوجاع الضحايا ووجعهم، إلى زواريب التضليل والتعمية والتمويه. من كان يظن أصلاً أن منظومة مجرمة وفاسدة ووقحة ستخضع للمساءلة سواء بدعوى الإهمال أو التقصير، فضلاً عن التورّط أو التواطؤ؟! إنها تقاليد دويلة المليشيات والفساد والعنبر 12، وهي لم تخفِ يوماً سعيها المحموم للفلفة الكارثة، ورهانها على العنف والتضليل لطيّ الصفحة السوداء.. و»كادَ المريبُ يقولُ خذوني».
العدالة قيمة أخلاقية وإنسانية كبرى، وشرطٌ للاستقرار، وممرٌ للسلام الاجتماعي، والمواطنة الكاملة.. لكنها في غابة اللادولة ليست سوى وجهة نظر وسلعة للمقايضة
اغتيالٌ بعد القتل
في مرور سنة على المَقتَلة – المأساة، لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: عرّى تفجيربيروت المنظومة/السلطة كاملة، عهداً وحكومة، من أي ورقةِ توتٍ كانت تراهن على التستر بها لتغطية الفشل والانهيار والنفاق والشعبوية، فالإرباك والتذاكي والانفصام والتناقض والاحتيال الذي طبع تصرفات المنظومة/السلطة بُعيد الكارثة، هوَ هو بعد عام لم يتغير، بلزادَحجم هذا الانكشاف والارتهان. تتصرف السلطةُ وكأنها تخشى انكشاف شيء ما، فتلجأ إلى التضليل وتبادل التهم المبطنة بين أركان الحكم. كل من في الجمهورية، رؤساء ووزراء وأجهزة ومسؤولين تبين أن لا علم له بـ «نيترات الأمونيوم» في المرفأ، أو لا يعرفون شيئاً عن هذه الأطنان التي استحالت قنبلة نووية فجّرها الفساد والإهمال والتواطؤ والفجور!
مجدداً، وكما قبل سنة كذلك اليوم.. وغداً، ما خرج عن المنظومة/السلطة ورموزها من مواقف وعرقلات وتذاكي ليس ضياعاً أو تيهاً، بل مبالغة في الاستكبار والوقاحة والمناورة واحتقار الضحايا، وكلّ ذلك بدأ منذ اللحظات الأولى للمأساة يوم 4 آب 2020 مع تعميم خبرية (بشكل احترافي) «معلم التلحيم»، وصناديق المفرقعات النارية، ثم احتلال الشاشات على مدى أيام لتوجيه الاتهام باتجاه معيّن، وبعدها المقولة الفاجرة بأن الانفجار الكارثي فكّ الحصار عن لبنان، وبعد ذلك السعي لاستغلال التعاطف العربي والدولي مع جرح بيروت وتوظيفه في الصراعات السياسية الداخلية… وصولاً إلى تطفيش المحقق العدلي الأول، ثم عدم التجاوب مع استدعاءات المحقق العدلي الحالي، والسعي للالتفاف على الاستدعاءات بحجة الحصانات.. هكذا وضعت السلطة نفسها في دائرة الشبهة.
ثانياً: قبل سنة كانت خطوة استقالة 7 نواب، تلتها استقالة حكومة حسّان دياب التي كشفت التطورات أنها كانت مناورة مفضوحة وخطيرة، لكسب الوقت وتضليل التحقيق واستيعاب غضبة الناس، وربما للتغطية على المتورطين الحقيقيين، في ما المطلوب، قبل سنة واليوم وغداً، وهو ما لن يقبل الشعب بأقلّ منه استقالة رئيس الجمهورية لوقف عرقلة تشكيل حكومة إنقاذيّة تتبنّى قضية العدالة وتوقف الانهيار، والمطلوب أيضاً استقالة المجلس النيابي للانطلاق بعدها لإعادة ترميم السلطة من رأس الهرم بأسس دستوريّة وشرعية، وفي كل ذلك تأتي جريمة المرفأ وتداعياتها والتحقيق ومحاسبة المتورطين في أول أولوياتها.
متى لحظة الحقيقة؟
ثالثاً: الصدمة العربية والدولية من التفجير الإرهابي كانت كبيرة، لكن التحرك العربي والدولي للضغط باتجاه كشف المتورطين أو التضييق على المنظومة المتورطة للرضوخ للتحقيق لم يكن بالمستوى الذي يضاهي حجم الكارثة، وهي جريمة ضدّ الإنسانية مكتملة الأوصاف والمعايير والتداعيات. المطلوب، قبل سنة واليوم وغداً، موقف منحاز للشعب اللبناني في معركته ضدّ المنظومة/السلطة التي تحوّلت إلى سلطة قاتلة. المؤتمر الدولي الافتراضي الذي عقد قبل أقل من سنة تحت عنوان «المؤتمر الدولي لتقديم المساعدة والدعم لبيروت والشعب اللبناني»، بدعوة من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والمؤتمر المزمع عقده غداً بدعوة من ماكرون ومشاركة قادة دوليين و(ربما) المملكة العربية السعودية يجب أن يتضمن إلى المساعدات الإنسانية، كلاماً واضحاً بعدم الثقة بالمسؤولين اللبنانيين، وأن مسألة العدالة مرتبطة بالاستقرار والمضي نحو التغيير، وأن سيف العقوبات جدّي وليس مجرّد أطرٍ هلاميّة فضفاضة. لا مناص من القول بأن هذه الخطوة من المجتمع الدولي تأخرت كثيراً.
رابعاً: كشفت كلّ التطورات التي أعقبت جريمة 4 آب، سواء أكانت مواقف عربيّة ودولية (والمواقف هنا تعكس قناعاتٍ راسخة، وإن لم تتحوّل بعدُ إلى خطواتٍ وإجراءات)، أو دينامياتٍ داخليّة أن ثمّة جامعاً مشتركاً مهماً ترسّخ على دماء ضحايا ومصابي الجريمة المروعة في المرفأ، بعدما كان تأسّس على انتفاضة الشعب في 17 تشرين 2019، وهو أن المنظومة السلطوية في لبنان، طبقة سياسية وعهداً وحكومة، انتهت، وباتت في دائرة الشبهة، وأن عليها الرحيل.. يبقى أن المطلوب من القوى المجتمعيّة الحيّة ضرورة إنجاز المشروع البديل واستراتيجيات التعامل مع الواقع المستجد والمعقّد والخطير في آن. فلبنان في قعر الحضيض على كلّ المستويات، والسلطة بالأدوات التي يمكن أن تلجأ إليها دفاعاً عن نفسها ومصالحها، ما تزال قادرة على التخريب والايذاء.. وهنا كل الاحتمالات واردة ومفتوحة.
العدالة ليست ترفاً
خامساً: العدالة إلى كونها قيمة أخلاقية وإنسانية كبرى، هي شرطٌ للاستقرار.. لكنها في دويلة العنبر 12 وغابة اللادولة في لبنان ليست سوى وجهة نظر أو سلعة للمقايضة. والعدالة سقف مطلب أهالي الضحايا والمتضررين والمتأذين والمتألمين مما جرى في مساء ذلك اليوم الرهيب، فنحن أمام جريمة موصوفة، هائلة، كبيرة ولا يمكن تغطيتها. نحن بحضرة 215 ضحية، وآلاف الجرحى وعاصمة مدمّرة… مدمّرة بالمعنى الدقيق للكلمة، ما يجعل من عدد المتضررين يقارب المليون شخص، وعلى هؤلاء، وكل الشعب اللبناني، الاقتناع بأن تحقيق العدالة لم ولن يكون مساراً سهلاً وعادياً، وعليهم التمسك بكل الأساليب والمستويات بموقف أن دولة الغابة، ودويلة السلاح والفساد لا تستقيم، ولا تقيم عدالة أو مواطنة أو حقوق أو مؤسسات، وهي لن تستمر. على المنظومة (وقد استنفرت أدواتها لسنة كاملة للتضليل والعرقلة) الاقتناع بأنه من غير المسموح لها مجرّد التوهّم بقدرتها على انتاج نفسها وشرعيتها المنتفية على دماء وجراحات الضحايا.
4 آب ليس جريمة فحسب، بل هو جرح مفتوح، دواؤه العدالة، وإطلاق ديناميّة التغيير العميق في بلد كان يوماً مثار ومحطّ إعجاب العالم. وكما قبل سنة، كذلك اليوم وغداً، المطلوب فترة انتقالية تقودها حكومة مستقلة بصلاحيات استثنائية، في أولويات برنامجها، التحقيق وكشف الحقيقة والعدالة، وطرح خطة انقاذية، وإجراء الانتخابات بقانون وظروف مناسبة، وإعادة الوصل مع العالم العربي والمجتمع الدولي.
4 آب هو ورقة التين التي أسقطت الأقنعة البشعة عن سلطة النيترات، ولا يراهنن أحدٌ أن المجموعة المتحكمة سيرفّ لها جفن ولو دمّر البلد كله مجدداً، والمعركة هي لتحرير البلد من الهيمنة والفساد وغياب العدالة، وهي وجوه متعددة لقُبحٍ واحد. لقد أورث هذا العهدُ البائسُ اللبنانيينَ الفجيعةَ والحزنَ والجوعَ والإفلاسَ والأسى والذلَ.. ولن يفكّ عنهم إلا بعد تحويل بلدهم إلى خراب يُحاكي دمار الحروب العبثية نهاية الثمانينات.
العدالة ممرٌ ضروري للسّلام الاجتماعي، والمواطنة الكاملة، ولدولة تحترم الحريّات والحقوق والكرامة الإنسانيّة.. وبدون هذه المعايير لا إنقاذ ولا نمو ولا حياة. هكذا يكون خلعُ المنظومة ومن ثم تحويلها للمحاكمة خطوة للانطلاق نحو لبنان سيّد، مستقل، وهو ما يريح الشهداء في عليائهم، ويمسح دموع الأمهات، ويبلسم وجع المصابين وخسارة المتألمين، وأنين المفقودين..الحساب آتٍ، والعدالةُ ستنتصر.