كل السياسيين الذين ينصّبون أنفسهم حماةً للعدالة والقضاء يحاولون رسم خريطة طريق للمحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، طارق بيطار، فإذا زاح عنها فهو لا يعود محققاً، واذا التزم بشروطها يُكال له المديح.
الفاعلون، خصوصاً من اصحاب السلطة والميليشيا، يطلبون الى المحقق ان يقصر عمله على معرفة من جاء بالنيترات، او على ما قال الرئيس نبيه بري: “ان المسار الى معرفة الحقيقة واضح. هو معرفة من أدخل السفينة… ولمن شحنة النيترات، ولأي غايات كانت سوف تستخدم؟ ومن سمح بابقائها طيلة هذه المدة… من المقصّر وكيفية حصول الإنفجار وأسبابه”…
هذا المطلب عظيم بحد ذاته. تفوح منه رائحة الحرص على الحقيقة والعدالة، وتنضح مشاعر الحرص على القضاء المستقل وحسنِ ادائه مهامه. لكن ذلك ينبغي ان يتم “بعيداً من استباحة كرامات الناس سواء كانوا نواباً او وزراء سابقين وحاليين وإداريين أو في اي موقع كانوا”.
قبل بري كان السيد حسن نصرالله حدد للمحقق حدود عمله فأنهى التحقيق وطالب بإعلان نتائجه. وقامت كتل نيابية بتوقيع عريضة ترسيم للمباح وغير المباح، وفي الخلاصة جرت وتجري محاولات حاسمة لحصار التحقيق والمحقق باسم الحقيقة والعدالة.
لا يوجد في عملية تحقيق بجريمة مهما كان حجمها، ضوابط يضعها سياسيون وقوى أمر واقع. والا فالسلام على التحقيق والرحمة لنفوس الضحايا. وقد حصل ذلك في لبنان منذ سنوات قريبة. في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمواطنين الـ 25. فتح “حزب الله” تحقيقه الخاص وقدم صوراً لطائرات اسرائيلية راقبت الشهيد الى ان قضت عليه، وكان لدى قوى السلطة في حينه رواياتها عن الاغتيالات الأخرى التي التقت جميعها تقريباً عند اتهام الاسرائيليين. اليوم ايضاً يمكن لقوى السلطة ان تقدم معلوماتها وإلا فلتترك المحقق يقوم بعمله، والذي “تحت إبطه مسلة فلتنعره”.
يشبّه كثيرون جريمة المرفأ بجرائم المافيا ويطلقون احياناً على السلطة القائمة تسمية تحالف المافيا الإقتصادية المالية المسلحة. وفي العالم تجارب عن مواجهات قضائية لهذا النوع من مرتكبي الجرائم.
ايطاليا قدمت نماذج قضائية في مواجهة المافيا مطلع تسعينات القرن الماضي. قتلت العصابة قاضيين بالتفجير لأنهما تجرآ على ملاحقتها. كان هدف الإغتيال “شل أجهزة الدولة والتفاوض لإعادة النظر في المحكمة والمحاكمات”.
أدخل القاضي فالكوني قبل ذلك بسنوات 450 عنصراً من مجرمي المافيا الى السجن، وأمضى 10 سنوات في مكتبه في قبوٍ تحت قاعة المحكمة وصرح: “ببساطة، انا لست روبن هود، ولا انا انتحاري. انا خادم للدولة في منطقة معادية”.
تمكنت المافيا من قتل فالكوني وزميله بورسيليني لكن القاضي نيكولا غراتيري الذي تابع مهمتهما أكمل التحقيق والمحاكمة تحت الأرض وحكم على 350 مافيوزياً!
يقول القاضي الايطالي “لا أذهب مسافة 10 امتار من دون سيارتي المصفحة. لم اذهب الى مطعم منذ أكثر من 20 سنة، ولم أزر السينما منذ 30 سنة. أنا دائماً في أماكن مغلقة… ومنزلي بات ملجأً…”.
ليس القصد إخافة القاضي طارق بيطار الذي يخيفونه فعلاً، لكنه اصرارٌ على التمسك بالقضاء والحقيقة مهما كانت المخاطر وهي صريحة. وعودة الدولة تبدأ من هنا بالضبط، ولا تبدأ بحكومة الحصص العالقة.