عام وثمانية أشهر مرّت على انفجار 4 آب، ولا يزال ضحاياه المباشرون عالقين في ذلك اليوم الذي قلب حياتهم رأساً على عقب. أكثر من 800 جريح باتوا يحملون جراحهم مدى الحياة. تنهكم آلام جسدية ونفسية وصعوبات في الحركة والتنقل. إذا فكّروا في تخطي «مأساة» 4 آب، فإنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن تكبّد تكاليف العلاج وإعالة عائلاتهم بعدما فقدوا أعمالهم. وإذا نسوا للحظة حقدهم على الدولة التي فجّرتهم وأعاقتهم بسبب إهمالها، فهي تذكرهم بإجرامها عبر سلب حقهم في الطبابة المجانية الشاملة، التعويضات، الرواتب الشهرية، وقبل ذلك كلّه حقهم في الوصول إلى الحقيقة والاقتصاص من المسؤولين
لا وجود لأيّ إحصاء رسمي لعدد الضحايا الذين تسبّب لهم انفجار 4 آب/ أغسطس 2020 بإعاقات دائمة أو مؤقّتة، ولكن بعد البحث في بيانات المخاتير والمستشفيات ووزارتَي الصحة والشؤون الاجتماعية والجمعيات ومراجعة دراسة أعدّها الصليب الأحمر تُبيّن أن 3% من الأفراد ضمن 6 آلاف عائلة شملها المسح أصيبوا بإعاقات، توصّل الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً، بحسب رئيسته سيلفانا اللقيس، إلى»800 جريح، بالحدّ الأدنى، استجدّت لديهم إعاقات دائمة ومؤقّتة جرّاء الانفجار». إلا أن هذا الرقم «غير نهائي لأننا نتعرّف باستمرار إلى مزيد منهم».
لدى وقوع الانفجار، تكفّلت وزارة الصحة، كما صرّحت، بإسعاف 10 آلاف جريح ومداواتهم على نفقتها ثم «سحبت يدها»، وتركت من تتطلّب حالتهم متابعة طبية يتخبّطون في طريق العلاج الطويل والمكلف. يستصعب معظمهم، اليوم، تأمين فرق ما تغطيه وزارة الصحة والجهات الضامنة. فباتوا عاجزين عن إجراء العمليات الجراحية، مراجعات الأطباء، الفحوصات المخبرية، الصور الشعاعية، جلسات العلاج الفيزيائي والانشغالي والنفسي، عدا الأدوية والمسكّنات. تروي اللقيس كيف «تعاني إحدى الجريحات التي بُترت يدها وفقدت نظرها في الانفجار لجمع 100 مليون ليرة كلفة العملية الجراحية التي تحتاج إليها، عدا ألفَي دولار أتعاب الطبيب، وهي تتقاضى راتباً قيمته مليون ونصف مليون ليرة شهرياً». هذا الواقع المرير، دفع البعض إلى التفكير في بيع ممتلكاته، «أحدهم أخبرني أنه في صدد بيع بيته ليتعالج»، فيما كان مصير آخرين الموت. «عباس مظلوم الذي أصيب بشلل سفلي أثناء تواجده في عمله في مطعم في بيروت أثناء الانفجار فقد حياته لأنه لم يقوَ على الانتظار ريثما نجمع كلفة عمليته».
تقاذف المسؤوليات
تشكّك وزارة الصحة والجهات الضامنة في إصابة الجرحى الذين لم يحصلوا على تقرير طبي من المستشفى الذي استقبلهم يوم الحادثة، علماً أن «حالة من الهستيريا» عمّت المستشفيات يومها ولم يحصل كثيرون على التقرير. هذا الاستخفاف بمأساة جرحى التفجير وحياتهم يظهر أيضاً من خلال «تقاذف المسؤوليات بين وزارة الصحة والضمان الاجتماعي والمستشفيات»، كما تقول رئيسة جمعية أهالي الضحايا، وشقيقة الضحية غايا فودوليان، ماريان فودوليان. «فكل جهة ترمي آلام الجرحى في ملعب الجهة الثانية. ومع أننا راجعنا وزيرة الدفاع السابقة زينة عكر لإدراج أسماء جميع الجرحى ممن يستلزمون مراجعات طبية في الضمان الاجتماعي بدلاً من طرق باب الوزارة، وكانت عكر متعاونة معنا، إلا أن شيئاً لم يتغير حتى اليوم»
عندما ملّ جرحى الانفجار من خذلان «الدولة» لهم، وإذلالهم على أبواب مؤسساتها، حملوا جراحهم ولجأوا إلى المجتمع الدولي والمؤسسات غير الحكومية والجمعيات الحقوقية. وفعلاً، حصل بعضهم على المساعدات الطبية. الطفلة سما الحمد، مثلاً، التي فقدت عينها اليسرى في الانفجار زُرعت لها عينٌ اصطناعية على نفقة الهلال الأحمر الإماراتي. والجريح عبد الرحمن بشناتي عوّضه الصليب الأحمر بطرف اصطناعي بعد بتر رجله اليسرى، ومنهم من ينتظر دوره في العلاج.
القانون 196 «يهمّش» الجرحى
لم تحل «لعنة» 4 آب على أجساد معوّقي الانفجار، فبترت أطرافهم وأصابتهم بإعاقات حركية وبصرية وسمعية وذهنية فحسب، إلا أنها طاولت ممتلكاتهم، وألحقت الخراب ببيوتهم، وحرمتهم عملهم. حتى تحوّلوا فجأة من معيلين لعائلاتهم إلى ذوي إعاقة يلازمون الفراش والكرسي المتحرك وعاجزين عن تأمين أدنى احتياجاتهم واحتياجات عائلاتهم. لم تشفق «الدولة» على حالتهم، وتركتهم يتدبّرون مصيرهم بأنفسهم. فأصدرت القانون 196 في 3 كانون الأول/ ديسمبر عام 2020 الذي ساوى ضحايا الانفجار بشهداء الجيش اللبناني واستثنى الأشخاص الذين تسبّب الانفجار بإعاقتهم مدى الحياة من أي تقديمات. وكانت الحجّة وقتها أن معوّقي الانفجار يستفيدون من مفعول القانون 220/2000 للأشخاص المعوّقين. «إلا أن هذا القانون لا يُطبق ومنتهَك من القطاع العام أصلاً، ولا يشمل حق معوّقي الانفجار في الحصول على تعويضات رسمية ورواتب شهرية»، بحسب اللقيس التي ترى أن «السلطة السياسية تصرّ على تحويل المعوّقين إلى ضحايا بسبب تخلّفها وسوء إدارتها». لذا، «ندرّب معوّقي الانفجار حقوقياً وقانونياً من أجل تأسيس جمعية تنادي بحقوقهم. وبعدما أنجزوا الرسالة والرؤية الكاملة للجمعية، يجهّزون النظام الداخلي».
استثنى القانون 196 الأشخاص الذين تسبّب الانفجار بإعاقتهم مدى الحياة من أيّ تقديمات
تهميش الجرحى دفع الناطق الرسمي باسم تجمّع أهالي شهداء وجرحى ومتضرّري انفجار مرفأ بيروت، وشقيق الضحية ثروت حطيط، إبراهيم حطيط إلى اقتراح استكمال القانون 196 إما بقانون أو مرسوم يساوي جرحى الانفجار بجرحى الجيش اللبناني أسوة بالضحايا. و»هذا ينتظر توقيع الرؤساء الثلاثة الذين طلبت منذ شهر مقابلتهم من دون أن أحصل على جواب».
من يحاول من معوّقي الانفجار أن يعتاد على إعاقته ويواصل حياته، يصطدم، كغيره من ذوي الاحتياجات الخاصة، بعوائق في المباني ووسائل النقل والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية على اختلافها. وهذا يزيد الضغوطات النفسية عليهم ويجعلهم «لا يطيقون حياتهم». وهناك فئة لم يعد يفصلها عن الانتحار غير مسافات قليلة. اتصلت جريحة في الانفجار تعرّضت لتشوّه في وجهها وكسور في أضلاعها أقعدتها على كرسي متحرك بحطيط. «كانت مدمَّرة نفسياً وأفصحت عن ميول انتحارية بعدما أدركت أن هذا العالم على وسعه لا يجد مكاناً لها.
جوزف الحلو: يجب أن نتأكّد
يؤكّد مدير العناية الطبية في وزارة الصّحة العامّة جوزف الحلو أنّ الوزارة «غطّت مادياً كلفة علاج كلّ الذين أصيبوا نتيجة الانفجار، وكلّ الذين دخلوا إلى المستشفيات وما زالوا. منذ أسبوع فقط خرجت إحدى المصابات من مستشفى تنّورين وكانت قد بقيت عاماً ونصف عام على نفقة الوزارة».
لكنه لا ينفي طلب الوزارة أوراقاً رسمية لمتابعة المصابين من ذوي الإعاقة «لأنه علينا أن نتأكّد أنّه من جرحى الانفجار، ولأنّ هناك من يتقدم بملفات ناقصة ولا ندري إن كان من ضحايا الانفجار أو استغلّ الظرف». يُضيف: «لقد تواصلت الوزارة مع نقيبة ذوي الاحتياجات الخاصة للطلب بتزويدها بأسماء ذوي الإعاقة الناجمة من انفجار بيروت أو على الأقل تبلّغنا بمن يحتاجون إلى عمليات».
جوزيف غفري: لن ألجأ إلى الوزارة مجدداً!
«يقولون إنّ عمري 57 سنة، إلّا أنني أبدو أصغر بكثير لأن نفسيّتي حلوة»، يضحك جوزيف غفري. يحاول أن تبقى نفسيّته التي «تأثرت كثيراً بعد إصابته في الانفجار» حلوة. بدأت رحلة «المأساة الكبيرة» مع بتر قدمه اليمنى وحرمانه من الكثير من النشاطات ولا سيما ممارسة هوايته في الصيد. ومرّت بمحطات من صعوبة في الحركة وآلام في ركبته وكتفه. وما زالت المأساة مستمرة. كان جوزيف يمارس رياضة المشي في شوارع الأشرفية عندما حصل الانفجار ووقع حائط على الجانب الأيمن من جسمه. لم تصدّق وزارة الصحة أنّ إصابته في كتفه هي بسبب الانفجار لأنه لم يحصل على تقرير طبي من مستشفى رزق يُثبت ذلك. فسدّد أكثر من 130 مليون ليرة ثمن علاجها وفرق ما غطّته تعاونية الموظفين لعلاج رجله. ويحتاج اليوم إلى عملية لكتفه تكلّفه 950 دولاراً، و500 دولار تكاليف جلسات العلاج الفيزيائي، عدا عن الأدوية. لا يملك المبلغ، لكنه يجزم: «لن ألجأ مرة ثانية إلى الوزارة التي أذلتني، فأنا لدي ما يكفي من الكرامة». إعاقة جوزيف تمنعه من إيجاد عمل ثانٍ إلى جانب عمله في وزارة الاتصالات الذي «لا يكفي لشراء الحد الأدنى من الحاجات». في الانفجار، خسر سيارته وتضرّر منزله، وما حصل عليه لإصلاحه لم يكن كافياً. قبلها «كانت الأحوال مستورة لكنني دفعت كل ما أملك على علاجي»، يشكو. ثم يشكر صاحب «النفسية الحلوة» ربه أنه «بقينا عايشين».
لارا حايك: غائبة وحاضرة
بعدما شهدت على «كارثة» الانفجار أثناء تواجدها في منزلها المجاور لوزارة الخارجية في بيروت، دخلت لارا حايك في غيبوبة، ولم تستفق حتى الآن.
عندما وصلت والدتها، نجوى حايك، إلى «مسرح الجريمة»، وجدت فراشها وثيابها غارقَين في الدماء. حملتها إلى مستشفى الجامعة الأميركية، وكانت قد تلقّت ضربة في شمال رأسها. ليلاً، قرّرت لارا، ابنة الأربعة وأربعين عاماً أن تكون غائبة وحاضرة في الوقت نفسه. تلوم نجوى نفسها لأنها لم تلحق بها وتسعفها بسرعة، «هذا جرح سيبقى في قلبي». ويعزّ عليها أن تحدّثها في نهاية كل أسبوع في مركز العناية المستدامة في مستشفى بحنّس في المتن، فلا تردّ. تحاول إضحاكها، فلا تستجيب. تذكّرها بما حدث في 4 آب علّها تستفيق، فلا تقوم إلا بتحريك عينيها. في بداية المشوار، استطاعت نجوى تأمين تغطية شاملة لعلاج لارا على مدى ستة أشهر على نفقة جمعية كويتيّة بعد مبادرة قام بها الإعلامي مالك مكتبي. ثم قدّمت فواتير المستشفى إلى الضمان الاجتماعي، فلم يقبلها. عندها، بدأت حكاية «الشحادة» من الجمعيات لتأمين 50 مليون ليرة شهرياً لتبقى لارا على قيد الحياة. تحصل على 20 مليوناً ويبقى عليها تسديد 30 مليون ليرة كل شهر.
عبد الرحمن بشنّاتي: خسرت كلّ شيء
عندما تسمع حكايته، تتعجّب كيف يستطيع هذا الرجل أن يقف على قدميه، أو بالأحرى على قدم واحدة. فالثانية تندرج ضمن لائحة الخسارات الكثيرة التي مُني بها إثر انفجار 4 آب. يومها، كان عبد الرحمن بشنّاتي في مركز الدفاع المدني في الباشورة يستعدّ لإنقاذ المتضرّرين من الحريق الذي اندلع. وقع الانفجار. وانقلبت حياته رأساً على عقب. أُصيب في رجله اليسرى، فبُترت. وخسر «عرباية العصير والإكسبرس» التي كانت بالقرب من مركز عمله ويقتات منها في انتظار توظيفه في الدفاع المدني. أما «الخسارة الأصعب» كانت خسارة عائلته. لم يفقدهم. أُجبر على ترك بناته الثلاث، الكبرى في الثانية عشرة من عمرها والصغرى في التاسعة في دار للأيتام لأنه لم يعد قادراً على تحمّل مصاريفهن. «صعبة كتير إفلت إيديهن كلّ نهار إثنين وأتركهن في دار مع الأيتام كما لو أني توفيت» يقول بأسى.
منذ أربعة أشهر أخبره الطبيب أنه يحتاج إلى عملية قلب مفتوح، لا يملك من كلفتها فلساً واحداً. تقول سيلفانا اللقيس: «اتصلت بمدير العناية الطبية في الوزارة جوزف الحلو الذي وعد بتغطية علاج معوّقي الانفجار، فكان ردّه: شو دخل عملية القلب المفتوح بانفجار المرفأ؟».