أطفال حوّلهم الإنفجار مذعورين… عدائيّين… انطوائيّين وغامضين
ستة قتلى، حوالى ألف مصاب، أكثر من 8 آلاف مشرّد وما يقارب مائة ألف تأثّروا بشكل مباشر بندوب متفرّقة. والذين يئنّون منهم بطريقة أو بأخرى من رائحة الموت ومشاهد الرعب، لا يحصَون. هذا ما جنته على أطفال لبنان لحظات دويّ انفجار مرفأ بيروت التي تكثّفت فوق سنوات من أسوأ إدارة لملف بحجم دمار وطن وقتل شعب. من تضرّر منهم جسدياً وكُتب له عمر جديد قد يكون تماثل أو هو على طريق الشفاء. لكن ماذا عمّن ما زالوا يتخبّطون نفسياً داخل دوّامة التعافي من “ندوب لا تُمحى”، بحسب ما عنونت منظمة الأمم المتحدة للطفولة تقريرها عن الإنفجار – الكابوس العام الماضي؟
لنأخذ لمى (10 سنوات) وابراهيم (3 سنوات) – اسمان مستعاران – نموذجاً. أطفال يتبوّلون منذ ذلك اليوم المشؤوم لاإرادياً، يُصابون بالذعر عند سماع أي صوت، يتمسّكون بأيدي أمّهاتهم لسبب أو لغير سبب، يخافون مجرّد البقاء في غرفهم، يرفضون إطفاء الأنوار ليلاً، يتفادون الخروج من بيوتهم، يتذكّرون بكاء الرضّع وصريخ الأمهات كما الجدران المضرجة بالدماء… وأشياء مماثلة كثيرة على هذا المنوال.
بين ما تتذكّره لمى وابراهيم من لحظات الفاجعة، وبين ما يقوله علم نفس الأطفال في هذا الخصوص، ما هي قصة ريم، المدّعية الأصغر سنّاً في ملف الانفجار، وما رأي القانون حيال التزامات الدولة اللبنانية التي صادقت على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في العام 1990؟ أسئلة متنوّعة حملتها “نداء الوطن” إلى المعنيّين علّنا نقع على بصيص ما يطمئن اللبنانيين الى مستقبل أطفالهم وصحّتهم النفسية المصابة في الصميم.
طفولة تنقلب رأساً على عقب
حفاظاً على سلامتهما النفسية وحرصاً منها على عدم تذكيرهما بصُوَر يتعيّن محوها من ذاكرتهما، توجّهت “نداء الوطن” إلى والدة لمى وابراهيم لتُخبرنا، نيابة عنهما، عن حالتهما “من سنتين وجرّ”. “كان زوجي خارج المنزل الذي يبعد مئات الأمتار عن موقع الانفجار. فجأة سمعنا أصواتاً غريبة بدت للوهلة الأولى كأنها ألعاب نارية. خرجت إلى الشرفة وابراهيم بين يديّ لأستكشف ما يحصل، فوجدت الجميع يهرولون مسرعين. ناديت لمى على وجه السرعة، إلّا أن الانفجار كان أسرع منّا نحن الثلاثة”. وتتابع: “في تلك اللحظة، فَقَدْت ابراهيم بين الركام لأجده أرضاً، بعد أن هدأ عصف الغبار، ينزف دماً طبع بلونه بعضاً من الحطام المتناثر حوله”. “ماما ما تخافي، نحنا بعدنا عايشين”. هذا أوّل ما سمعت الأم طفليها يردّدان بصوت خافت أقرب إلى الهمس.
عصف الانفجار مسألة ثوانٍ، لكن آثاره قضيّة دهر وأبعد. فالندوب التي حُفرت فوق يديّ ابراهيم ووجنتيه ما برحت تعيده عامين إلى الوراء كلّما استرق النظر إلى نفسه بالعين المجرّدة أو في المرآة. والتداعيات لم تقف عند هذا الحدّ، إذ تصف لنا الأم حياة ولديها اليومية والدمعة تفرّ من عينها: “حالتهما صعبة… يركضان ويختبئان خلفي كلّما سمعا صوت دراجة نارية. يمتنعان عن النوم في غرفتهما مردّدين دوماً عبارات تنضح ذعراً. يطلبان منّي باستمرار إغلاق باب المنزل ويأبيان أن تطأ أقدامهما الشارع للّعب مع رفاقهما”. العدائية أصبحت عنوان تصرّفات ابراهيم من خلال رغبته المتواصلة في الصراخ وضرب الآخرين. أما لمى، فهي تحوّلت فتاة صامتة، انطوائية، منعزلة، غامضة، على حدّ قول أمّها. وقد تبيّن، بعد خضوعها لعلاج نفسي بعد وقوع الانفجار، أنها تعاني نتيجته من تأخّر في النمو الفكري ومن انعدام شبه تام في التركيز.
“بدّو يصير انفجار تاني ولازم نهرب”. جملة يتفوّه بها الولدان في ما بينهما بعيداً عن مسمع الأهل. أما سقوط (أو إسقاط) جزء من أهراءات القمح في المرفأ مؤخّراً، فلم تزدهما سوى ترداداً لها. هنا تخبرنا الأم: “حين وقع الانفجار، تطايرت أحذيتنا يميناً ويساراً، فركضنا حفاة القدمين. وأوّل ما يقوم به الولدان مذّاك، عند سماع صوت أو تصاعد دخان، هو تجهيز الأحذية عند مدخل البيت وفي بالهما أن انفجاراً ما سيحدث”. فهل هذا ما تستحقّه الطفولة؟
لإعلان حال طوارئ نفسية
لا بدّ أمام هول ما سمعناه، وهما حالتان من مئات إن لم يكن آلاف الحالات الأخرى، من الاستفسار أكثر عما يقوله علم النفس. “نداء الوطن” تحدّثت مع المتخصّصة في علم النفس العيادي ومؤسِّسة مركز “نفسانيون”، الدكتورة هبة خليفة، التي اعتبرت بداية أن الصحة النفسية هي من المواضيع غير المرئية أو الملموسة. فالأنظار غالباً ما تتّجه نحو الجرحى والقتلى، أما الأمور النفسية فلا يتمّ التطرق إليها إلا متأخّراً.
خليفة لفتت إلى أن أطفال لبنان بدأوا يتلقّون الصدمات النفسية تباعاً منذ ثورة 17 تشرين وتفاقم الوضع مع الأزمة الاقتصادية الحادة وجائحة كورونا، ليأتي الانفجار ويسبّب بدوره صدمة إضافية لهم. ورأت أن الأمور لن تصطلح من دون تحقيق العدالة، لأن أي صدمة تحتاج إلى نهاية ما كي لا تُطوى بكبتٍ للمشاعر. “أطفالنا نضجوا قبل أوانهم وسُرقت طفولتهم منهم، فَهُم يعيشون حياة لا تتناسب مع أعمارهم”، تشرح خليفة مشيرة إلى الطريقة التي عبّر بها هؤلاء عن خوفهم خلال برنامج الدعم النفسي الاجتماعي الذي قدّمه المركز مجاناً للأطفال المتضرّرين. وتضيف: “كانوا يتكلّمون كثيراً لكن أحاديثهم ورسوماتهم تقطر كآبة وتحمل في طيّاتها الكثير من الخوف والقلق”.
ما السبيل إلى النسيان والعودة إلى الحياة الطبيعية؟ “للأسف، هناك استحالة هنا إذ سترافق الاضطرابات الأولاد لفترة من الزمن في ظل غياب برامج الدعم النفسي”، كما تقول. ماذا نفهم من هذا الكلام؟ “سيستمرّ العديد من الأطفال بالصراخ عند سماع أي صوت لأن من شأن الأصوات أن تنعش في ذاكرتهم لحظة الانفجار، ولن يشعروا بالأمان إلا بجانب الأهل. الخوف حالة ستلازمهم مقترنة بهاجس وقوع انفجار آخر وبأن الموت قريب. سنرى أطفالاً يهابون الخروج إلى الشرفة أو استخدام المصعد لأنهم فقدوا الإحساس بالأمان. هذا إضافة إلى العدوانية التي ستبدو جليّة في تصرفاتهم إذ إنها وَسيلَتهم الوحيدة للتخلّص مما في داخلهم”، بحسب خليفة.
العودة إلى الوراء، كما يقول علم النفس، مستحيلة، إنما يمكن ترميم الأشياء من خلال الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الأطفال على التعافي. والتعافي يأتي من خلال إعادتهم الى حياتهم الطبيعية اليومية وجعلهم يعبّرون عن مشاعرهم ويستمتعون بوقتهم في بيئة تشعرهم بالأمان. زد على ذلك الدعم النفسي المكثّف والحماية، ما يتيح لهم الاندماج والتكامل مع الآخرين. وتشدّد خليفة على ضرورة التواصل الذي يحقّق الراحة النفسية في كنف العائلة، لافتة إلى أن “التواصل بين الأهل والأبناء ضروري في مرحلة العلاج. فعلى الأهل السماح لأبنائهم بالتحدث عما حصل ومناقشة الموضوع وتبسيطه. كما أن إظهار المشاعر كمعانقة الطفل وتقبيله يمنحه شعوراً بالحماية”. وطالبت ختاماً بإعلان حال طوارئ نفسية في لبنان وذلك عبر تمويل وتكثيف برامج الدعم النفسي، لأن انفجار بيروت “سلب أطفالنا فرصة العيش وَهُم في حالة انهيار تام، وما من أحد يتحرّك”.
طفلة تدّعي على من “قتل ألعابها”…
ننتقل إلى ريم، إذ ما ينطبق على لمى وابراهيم، ينطبق عليها هي الأخرى. فبعمر السنة والنصف، انضمّت وإخوتها الثلاثة – كريم، كارين وملاك – إلى الدعوى العامة لجريمة انفجار المرفأ، “تعويضاً عن الضرر المعنوي اللاحق بهم نتيجة الرعب الذي عاشوه عند وقوع الانفجار الذي هدّد حياتهم وشرّدهم قسراً لفترة من منزلهم، هذا إضافة إلى أن العناية الإلهية وحدها هي التي أبقتهم على قيد الحياة”، كما جاء في نص الدعوى.
والد ريم، منسّق اللجنة القانونية في المرصد الشعبي المحامي جاد طعمه، والذي انضم نهاية العام 2021، مع آخرين من ذوي الأطفال المتضرّرين، إلى فريق الادعاء بولايته الجبرية عن أولاده، يقول لـ”نداء الوطن”:” سأمزج هذه المرة العام بالخاص لأن تداعيات جريمة الانفجار أصابتني معنوياً على المستوى الوطني العام، كما شخصياً في منزلي على المستوى الخاص. فأولادي كانوا لحظة الانفجار في المنزل الذي يُفترض أن يكون خليّة آمنة لهم. تعرّضوا إلى صدمة نفسية نتيجة صوت الانفجار وعصفه وآثاره. فهم يتذكّرون ذلك الصوت دون انقطاع، ويردّدون عبارات مؤلمة على غرار “المجرمون قتلوا ألعابنا”. هذا إضافة إلى حالة الخوف التي انتابتهم حيالي كونهم كانوا يجهلون مكان تواجدي لحظة الانفجار بعد أن انقطعت الاتصالات كلياً”.
دولة في حلّ من الالتزامات
نتعمّق أكثر في الشق القانوني. ففي مراجعة لالتزامات الدولة اللبنانية التي صادقت على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل عام 1990 وعلى البروتوكول الاختياري التابع لها عام 2002، نجد أنها مقصّرة تجاه الأطفال القصّر، دون 18 سنة، كما هي حالها تجاه كل المواطنين لا فرق. “للأطفال مكانة خاصة في الضمير العالمي، لذا فرضت هذه الاتفاقية على الدول مسؤولية رعايتهم وحماية مشاعرهم كي ينموا بأفضل طريقة والحفاظ على خصوصياتهم وأُسَرِهم والحرص على تبادل الأفكار والآراء معهم وحمايتهم من العنف وتأمين حقوقهم في بيئة صالحة”، بحسب تعبير طعمه.
نسأله عن الدافع الذي جعله ينضم إلى فريق الادعاء، فيُعرب عن حتميّة القيام بردّ فعل للتعبير عن غضبه إزاء ما واجه عائلته. فكان قرار الإنضمام إلى فريق الادعاء بصفته أحد المتضرّرين مع فارق أنه تقدّم بالادعاء بصفته الشخصية وبولايته الجبرية عن أولاده جميعاً. ويضيف: “لعلّ ابنتي ريم هي المدّعية الأصغر سناً في ملف هذا التحقيق المجّمد بقرار سياسي. فلو كانت النوايا صادقة لكان مجلس النواب استصدر قانوناً بصفة المعجّل المكرّر لإسقاط كامل الحصانات في هذه القضية ووضع حدّاً لمهزلة طلبات الرد التي استعملها الوزراء المطلوبون للعدالة أولاً، ومن ثم بعض الموقوفين وأهالي الضحايا بإيعازات واضحة المصدر”.
دعوى الانضمام هذه تجمّدت مع ملف التحقيق العدلي، نتيجة طلبات الرد وغياب هيئة للنظر بطلب ردّ الهيئة الناظرة بطلب الردّ، وذلك بانتظار حصول التشكيلات القضائية. “ما يحصل في ملف جريمة المرفأ هو المثال الأوضح على فصاحة أهل السلطة في المحاضرة بالعفاف وفي الإجهاز على العدالة وإعاقة مسارها. فالتحقيق العدلي مجمّد إلى أجل غير مسمى نتيجة واقع حال وحجج قانونية خلاقة ابتدعها أهل السلطة وسط صمت مريب للقضاة. فهل هم حقاً أصحاب سلطة في أدائهم ومواقفهم في ظل واقع الإنهيار التام الذي يهدّد ليس فقط أهراءات القمح بالسقوط بل كامل هيكل الدولة على رؤوس الجميع؟ العدالة المجمّدة، تماماً كالعدالة المتأخّرة، تنطوي على تخاذل واستنكاف عن إحقاق الحق”. أما بالنسبة إلى كيفية متابعة الملف والتعويضات المُطالَب بها، فيوضح طعمه أن المطالبة بالتعويضات هي شرط قانوني للادعاء بغض النظر عن قيمتها المادية. “المهم أننا نسعى لمحاسبة المجرمين. الأولوية للقضاء اللبناني وإلا سنتوجّه إلى القضاء الدولي”، ليختم: “لسنا بحاجة لدقيقة صمت هذا العام إنما لدقيقة صراخ جماعي نصرة للعدالة المذبوحة في وجه فجور أهل السلطة واستباحتهم للقضاء الذي لا قيامة للبنان بدون انتفاضة الشرفاء فيه”.
على أي حال، قد تحلّ علينا الذكرى الخامسة أو العاشرة أو حتى العشرون لجريمة العصر قبل أن نفقه عمق الأذى الذي ألحقه حلف الفاعلين والمتقاعسين بنا جميعاً، كباراً وصغاراً. الحقيقة والحساب مؤجّلان. لكن الرهان يبقى على لمى وابراهيم وريم ورفاقهم ورفيقاتهم أن يكونوا لهؤلاء بالمرصاد… ولو بعد حين.