Site icon IMLebanon

تَوقعوا رِياحاً سياسيَّةً عاصفة تُنذرُ بالإطاحَةِ بالمحقِّقِ العدلي وسُقوطِ العَدالَة الجِنائيَّة (1)

 

 

لم يوقظ زلزالُ انفِجارِ مرفأ بيروت نوابَ الأمَّةِ من غَفلتِهِم، وتكادُ مفاعيلُ عَصفِهِ لم تَنتَه بعد، فهي وإن تجلَّت مَآثرُها بادئ الأمرِ في تَخريبٍ كُلِّيٍّ لمُنشآتِ مرفأ العاصِمَةِ وتعطَّيلِهِ بالكامِل، وهَدمِ ما يُقارِبُ رِبعَ أحياء بيروت السَّكنيَّة، وتَهجيرِ آلافِ العائلاتِ من مَساكِنِهِم كما جَعلَ عَشراتِ آلافِ الشَّرِكاتِ والمُؤسَّساتِ خارِجَ الخِدمَة، هذا بالإضافَةِ إلى كونِهِ أودى بحياةِ  ما يَزيدُ عن مايتي قتيلٍ وسِتَّةِ آلافِ مُصاب، وكَمٍّ هائلٍ من الأضرارِ المادِّيَّةِ المَنظورَةِ وغَيرِ المَنظورَةِ التي يَصعُبُ حَصرُها وتقديرُها، وقد يَتسبَّبُ في إخراجِ لبنانَ من خارِطَةِ التَّبادُلِ التِّجاري إقليميَّاً بشَلِّ أو تحييدِ مرافئة، وفي طليعتِها مرفأ بيروت، الذي لطالما كان بوابَةَ عُبورٍ للبضائع إلى بُلدانِ شَرقي المُتوسِّط وفي طليعَتِها الدُّولُ العَربِيَّةُ ـ الآسيويَّةِ والخليجيَّةِ بالتَّحديد. وأخطَرُ ما في الأمرِ هو إمكانيَّةُ حُلولِ مَرافئ أخرى غير لبنانيَّةٍ ورُبما مُعادِيَةٍ مَحلَّ المَرافئ اللبنانيَّة؛ وآخرُ مَفاعيلِ الإنفِجارِ المُستَجدَّةِ يَتمثَّلُ في الانقِسامِ الحادِّ في المَواقِفِ حِيالَ تَحديدِ المَرجَعِ المُختصِّ في الفَصلِ في قَضِيَّةِ انفِجارِ المَرفأ، والذي يُنذِرُ بتَصَدُّعِ بُنيانِ النِّظامِ السِّياسي القائمِ عامودِيَّاً.

 

الفسادُ يَعمي البَصائر، وهذا ما يُفسِّرُ الخِفَّةُ التي تعامَلَ بها المَعنيون مع شُحنَةِ النِّيترات، بدءاً بالمَسؤولين عن إدارَةِ المَرفأ والعامِلين فيه من جَمارِكَ وأجهِزَةِ مُخابراتٍ عَسكَرِيَّة وأمنيَّة، والذين يُخشى أنهم كانوا منشغلين بشؤون هامشيَّةِ أو شؤونهم الخاصَّةِ على حِسابِ مَهامِهِم الأساسِيَّة.

 

لقد غَلَبَ مَنطِقُ رَدَّاتِ الفِعلِ على أداءِ مُعظَمِ مؤسَّساتِنا اللُّبنانِيَّة، لانعِدامِ الرُّوحِ المُبادِرَةِ لدى مُعظَمِ المَسؤولين فيها، ولعَدَمِ رَغبتِهِم في التَّنسيقِ في ما بينهم، لأَّن تَعيينهم وتسميتَهم للمَراكِزِ لا يتِمُّ وَفقَ مَعاييرَ مُتجَرِّدَةٍ تَقومُ على الاختِصاصِ والكَفاءَةِ بل قِياساً على مدى ولائهِم للشَّخصِ وبالتالي الفَوزُ للمَحظيين والمَحاسيب. ولو تَحلَّى المَعنيون بالشَّأنِ العام والأمنِ بمَنهجِيَّةِ مُبادِرَةٍ لكَفوا لبنان واللبنانيين شَرَّ الانفِجارِ المُزلزِلِ، باتِّخاذِهِم قراراتٍ جَريئةٍ ومَسؤولةٍ فَورَ عِلمِهِم بشُحنَةِ نيتراتِ الأمنيوم.

 

التَّحقيقُ الجِنائيُّ في قَضِيَّةِ انفِجارِ المَرفأ تائِهٌ ما بين يَدي مُحقِّقٍ عَدليٍّ مُتسلِّحٍ بتَعاطُفٍ شَعبي مع ذوي الضَّحيا، وقِوى سِياسِيَّةٍ مُتسلِّحَةٍ بنُصوصِ الدُّستور. والشَّعبُ اللبناني يَقِفُ موقِفَ المُتَفَرِّجِ من عَدالَةٍ تَترَنَّحُ ما بين مَجلِسِ نُوَّابٍ شَرَّدَهُ الانفِجارُ من مَقرِّه، ومُحقِّقِ عَدلي عُيِّنَ بعد مَخاضٍ عَسيرٍ نتيجةَ عدمِ التَّناغُمِ ما بين مجلسِ القَضاءِ الأعلى ووزيرَةِ العَدل. وَحدَهُم ذوو الضَّحايا من يَنشُدُ العدالةَ ويُطالبُ بكَشفِ الحَقيقَة، أي حَقيقةِ إراقَةِ دماءِ فلذاتِ أكبادِهِم الذين أُزهِقَت أرواحُهُم في مَعرَضِ صِراعاتٍ سياسيَّةٍ عَبثِيَّةٍ واستِشراءِ للفَسادٍ ألهى المَعنيين مُباشرةً بإدارَةِ المَرفأ ورؤسائهم التَّسلسليين عن السَّهرِ على الأمنِ أو تَسييرِ الأعمالِ فيه، وعَمَّا ينبغي القِيامُ به حيالَ شُحنَةِ هائلَةٍ من مادَّةِ نيتراتِ الأمونيوم القابِلَةِ للتَّفجير.

 

يتحمَّلُ المَجلسُ النيابيُّ مَسؤوليَّةً كُبرى في وصولنا إلى المأزقِ الدستوري ـ القَضائي الذي نَتَخَبَّطُ فيه، والمُتمثِّلِ في تبايُنِ المواقفِ حولَ المرجعِ القَضائي المُختصِّ في النَّظرِ في قضِيَّةِ انفِجارِ المرفأ، هذا الانقِسامُ يُنذرُ بمُحاولَةٍ لتَضليلِ الرَّأي العام وتَحييدِ التَّحقيقِ عن جوانبهِ الهامَّةِ ورُبما تَجهيلُ الفاعِلينَ والمُتورِّطينَ والمُقصِّرينَ أو إفلاتِهِم من العِقاب؛ وذلك نتيجَةَ تَقاعُسِ المَجلِسِ عن القِيامِ بواجِباتِهِ حِيالَ الحادثِ المُفجِع، وتصرُّفِهِ على نحوٍ يُنذرُ وكأنه غَيرَ مَعنِيٍّ بهذه الكارِثَةِ الوَطنيَّة، التي هزَّت الضَّميرَ العالمي.

 

لم يقتَصِرْ التَّقاعُسُ على نُوابِ الأمَّةِ، بل كان أشبه بمرضٍ معدٍ أصابَ مُعظمَ المَسؤولين اللبنانيين، بحيث تغافلوا عن هذا الحَدثِ الجَللِ، وسادّ منطقُ التَّجاهُلِ والتَّعامي عن مُعاناةِ اللبنانيين عامَّةً وذوي الضَّحايا الأبرياءِ الذين دفعوا أثماناً باهِظَةً لِحالَةِ الاهتِراءِ التي تُعاني منها مؤسَّساتُ الدَّولَةِ اللبنانيَّةِ وأجهِزَتِها القَضائيَّةِ والعَسكرِيَّةِ والأمنِيَّةِ والجُمرُكِيَّة …بدا واضِحاً ومُنذُ انطِلاقِ التَّحقيقِ في جريمةِ انفجارِ المَرفأ، التي أحالَها مَجلِسُ الوزراءِ إلى المَجلِسِ العَدلي، إصرارُ المُحقِّقِ العَدلي السَّابِقِ القاضي فادي صَوَّان الذي أُقصِيَ عن القَضِيَّة، كما المُحقِّقُ العَدليُّ الحالي .طارِق البيطار على الاستِماعِ لإفاداتٍ رَئيسِ وزراءِ الحكومَةِ المُستَقِيلةِ «حسَّان دياب» وبعضٍ من وزرائها بالإضافَةِ إلى وزراءَ سابِقينَ بصِفَةِ مُدَّعى عليهم بعد ان استمَعَ إلى بعضَهُم بصِفَةِ شاهِد.

 

اتَّخذَ المُحقِّقُ العَدليُّ القاضي صَوَّان قراراً باستجوابِ رئيسِ حُكومَةِ تَسييرِ الأعمال، وبعضاً من الوزراءِ السَّابقين، وسَطَّرَ كتاباً لمَجلسِ النُّوابِ لاصدارِ إذنٍ بمًلاحَقَتِهِم، وما إن وَصَلَ هذا الكِتابُ إلى مَجلِسِ النُّوابِ حتى استَفاقَ من غفلته، وأُعلنَ عبرَ بعضِ النُّوابِ الذين أوعِزَ إليهم التَّحدٌّثُ باسمِ السُّلطَةِ التَّشريعِيَّةِ أن مُلاحَقَةَ رؤساءِ الحُكوماتِ والوزراءِ في ما يتعلقُ بالخِيانَةِ العُظمى والإخلالِ بالواجِباتِ الموكلةِ إليهم تَخرُجُ عن صَلاحِيَّةِ المُحقِّقِ العَدلي، وهي حَصراً من صَلاحِيَةِ المَجلِسِ الأَعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزَراء، وسَعوا إلى إقصائهِ عن المَلَفِّ ونَجَحوا في ذلك بعد أن تَقدَّمَ الوزيرانِ السَّابقانِ علي حسن خليل وغازي زعيتر بطلبِ نقلِ الدَّعوى، وعليه قرَّرت مَحكمَةُ التَّمييزِ الجزائيَّةِ كفَّ يدِ المُحقِّقِ العَدلي ونَقلِ ملَفِّها إلى قاضٍ آخَرَ لم تُسَمِّه.

 

عُيِّنَ القاضي طارِقُ البيطارِ كمُحقِّقٍ عَدلي، وبعد ان اطَّلَعَ على مُجرياتِ المَلفِّ واستمَعَ إلى بعضٍ من الشُّهودِ الجُدُدِ أي الذين لم يسبُق أن استَمَعَ إليهم المُحقِّقُ السَّابِق، وطلبَ الإذنَ بالاستماعِ إلى المُدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ومدير عام أمن الدَّولةِ اللواء طوني صَليبا،  والوزراء السَّابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق بصِفَتِهِم نوابَاً ومُحامين ويوسُف فِنيانُس بصفَتِهِ مُحام، لم يوافِق وزيرُ الدَّاخليَّة المُستقيل محمد فهمي على طَلبِ الإذن وكذلك فعلَ رئيسُ حُكومتِهِ حَسَّان دياب بالنِّسبَةِ لمديرِ عام أمن الدَّولَة. طَعنَ المُحقِّقُ بقرارِ وزيرِ الدَّاخِلِيَّةِ ولكن النِّيابَةَ العامَّةَ التَّمييزيَّةِ لم تحجب طلبه إذ استمهلت الردَّ مُشيرَةً إلى أنها ليست المَرجَعَ المُخوَّلَ للبَتِّ بالطَّعنِ كون طَلَبِ الإذنِ وَرَدَ من مُحقِّق عدلي وليس من نيابَةٍ عامَّةٍ كما تَنصُّ عليه المادَّة 13 من قانون أُصولِ المُحاكماتِ الجزائيَّة.بعد تشكيلِ الحُكومَةِ الحاليَّةِ برئاسَةِ دولةِ الرَّئيس نجيب ميقاتي ونيلها الثقة، أصدرَ القاضي بيطار مُذكَّرَةَ جَلبٍ بحَقِّ رَئيسِ الحُكومَةِ المُستقيلَةِ حَسَّان دياب الذي تمنَّعَ عن الحُضور، لذا عادَ وأصدَرَ مذكرةَ إحضارٍ بحَقِّه، ولكن تبين أنه قد غادَرَ الأراضي اللبنانيَّة إلى الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأميركيَّةِ بزيارَةٍ عائليَّة مُقرَّرةٍ سابقا. كما حدَّدَ المُحقِّقُ مواعيد لاستجواب ضابطين من مُخابراتِ الجيش اللبناني، وقائدِ الجيش السَّابقِ وكلٍّ من الوزراء السَّابقين غازي زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فِنيانُس ونُهادُ المَشنوق.

 

لم يسلم القاضي طارق البيطار كما حَصلَ مع سَلَفِهِ من الانتِقادِ، ولكن تميَّزت هذه المرَّةَ بحِدَّتها والمصادرِ التي أطلقتها، بحيثُ وُجِّهت إليه من قِبَلِ مَرجَعِيَّاتٍ لها مواقِعُها ووزنَها في الحياةِ السِّياسِيَّةِ في لبنان. وجاءَ أولُ تحذيرٍ لافتٍ من أمين عام حزب الله الذي خاطبَهُ طالِباً منه تَصحيحَ مَسارِ التَّحقيقِ مُتَّهِما إيَّاهُ أنَّهُ لا يَسعى إلى توضيحِ المَسؤوليَّاتِ الحَقيقِيَّةِ بل يُرَكِّزُ على المَسؤوليَّاتِ الإدارِيَّةِ، مُطالِباً بإفصاحِ المُحقِّقِ عن حَقيقَةِ ما جَرى وخَتَمَ بأن الطَّريقَةَ التي يَعتمِدُها المُحقِّقُ تنطوي على ارتياب. بدورِهِ رئيس مجلسِ النواب دولة الرئيس نبيه بري استغلَّ إحدى المُناسباتِ الهامَّةِ وضمَّنَ خِطابهُ رِسالةً شفويَّةً للمُحَقِّقِ العَدلي ناصِحاً إياه بأن يَسمَعَ لصَوتِ العَدالَةِ لا لِمَن يَهمُسَ إليه ومن دون استِنسابِيَّة، وكذلك صَدَرَ مؤخَّراً موقِفٌ لافِتٌ من أعلى مَرجَعِيَّةٍ دينِيَّةٍ في لبنان أي دارُ الإفتاءِ، تعمَّدَ المعنيون فيها إعلانه على أثرِ اجتِماعٍ للمَجلِسِ الشَّرعي الإسلاميِّ الأعلى، شَدَّدَ البيانُ على ضَرورَةِ رفعِ كُلِّ الحَصاناتِ دون استثناء مُحذِّراً من الاستنسابيَّةِ والانتقامِ السياسي، ولم يقف الأمرُ عند النَّهي والنُّصحُ بل تجاوزَ ذلك لإشاعَةِ خبرٍ مَفادُهُ أن المُحقِّقَ العدليَّ قد تلقى تهديداً بالواسِطةِ من رَئيسِ وِحدَةِ الارتِباطِ والتَّنسيقِ في حِزبِ الله الحاج وفيق صفا.

 

هذا التَّبايُنُ الحادُّ في المواقِفِ فيما لو أضيفَ إلى الأسبابِ والمُلابساتِ التي رافَقَت تنَحي القاضي صوَّان، وتَقدُّمِ نقابَةِ المُحامين أمامَ الغُرفَةِ الجِنائيَّةِ التابَعَةِ لمَحكَمَةِ التَّمييزِ بدعوى رَدِّ المُحامي العام التَّمييزي القاضي غسَّان الخوري للإرتيابِ المَشروعِ لِعِلَّةِ أنَّهُ سَبَقَ له وحَفِظَ مَلَفِّ القَضِيَّةِ على أثَرِ استِماعِ مدير عام أمن الدَّولةِ المَطلوبُ استِماعُهُ اليومَ بصِفَةِ مُدَّعى عليه، بالمُقابِلِ بَدَت مؤشِّراتُ سَعي قِوىً سِياسِيَّةٍ إلى طَلَبِ رَدِّ المُحقِّقِ العدلي القاضي بيطار للإرتِيابِ المَشروع وقد تقدَّمَ أحدُ الوزراء السَّابقين المطلوب استجوابُهُ بدعوى بهذا الخُصوصِ وأعرَبَ آخرون بأنَّهم سينحون ذات المنحى؛ كُلُّ ذلك يوحي أن مُقارَبَة قَضِيَّةِ انفِجارِ المرفأ وتَحقيقِ العَدالَةِ الجِنائيَّة فيها ليسَت على ما يُرام.

 

لم يعُد خافياً على أحدٍ أن المَسؤولَ الأوَّلَ عن المأزقِ الذي وصَلنا إليه في هذهِ القَضِيَّةِ الجوهريَّةِ هو المَجلسُ النِّيابِيُّ الذي لِسوءِ الحَظِّ تَقاعَسَ عن القِيامِ بأدنى واجِباتِهِ مُنذُ وقوعِ الحادِث الكارثي ولم يزل. وتتمثَّلُ أوجُهُ القُصورِ لدى المَجلِسِ النِّيابيِّ في قُصورِهِ عن مُواكَبَةِ الحادِثِ الجَلَلِ وتَبِعاتِه، وكَشفِ خَفاياه، وتَحديدِ المَسؤوليَّاتِ السِّياسِيَّةِ والقِيامِ بواجِبِهِ الرَّقابي على السُّلطَةِ التَّنفِيذِيَّة وبالتَّحديدِ الحُكومَةِ قبلَ وبعدَ حُصولِ الكارِثَة، إذ كان ينبغي على المجلسِ أن يُبادرَ إلى تَشكيلِ لَجنَةِ تَحقيقٍ برلُمانِيَّةٍ لتَقصِّي الحَقائقِ وكَشفِ مُلابساةِ الحادِث الجُرمي، وتَحديدِ المَسؤوليَّاتِ، ومواكَبَةِ الإجراءاتِ المتَّخذةِ الواجبِ اتِّخاذها للتَّخفيفِ من مُعاناةِ المواطنين، وبخاصَّةٍ الذين هُجِّروا من بُيوتِهِم، أو لَحِقَت بهم خسائرُ مادِّيَّةٍ فادِحَة، وقبلَ ذلكَ مواكَبَةُ التَّحقيقِ العَدلي الهادِفِ لكَشفِ مُلابساتِ استِقدامِ شُحنَةِ نيتراتِ الأمونيوم الى لبنان وإيداعِها في أحد عنابر مرفأ بيروت في ظُروفٍ غير مُلائمَةٍ ومن دون أي احتياطات، كما وقوفُهً على أسبابِ تفجُّرِها وتَدميرِ المرفأ ومُحيطِه.

 

لقد تبني المجلسُ النِّيابي مَنهجيَّةَ رَدِّ الفِعلِ واكتفى بالبكاءِ على الأطلالِ والتَّعقيبِ على ما يَرِدهُ من مُراسلات، واستِلامِ الكُتُبِ المُوجَّهَةِ إليه من المَرجعِيَّاتِ القَضائيَّةِ المَعنِيَّةِ بمن فيهم المُحَقِّقُ العَدلي بواسِطَةِ النِّيابَةِ العامَّةِ التَّمييزِيَّة، وفي هذا السِّياقِ جاءَ رَدَّهُ على كِتابِ المُحقِّقِ العَدلي فادي صوان، حيث طلبَ تزويدهُ بمزيدٍ من المعلوماتِ ليُبنى على الشيء مُقتضاه، مُتذرِّعاً بعَدَمِ وضوحِ الأسبابِ التي بُنِي طَلَبُ إذن مُلاحَقَةِ بعضِ الوزراء الأعضاءِ في المَجلِسِ النِّيابي، وإن كُلِّفَ بعضُ النوابِ بالإدلاءِ بتَصريحاتِ أشارَت إلى أن صَلاحِيَةَ مُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراءِ مَحصورَةٌ في المَجلِسِ الأعلى لمُحاكَمَةِ الرُّؤساءِ والوزراء، وأن مُلاحَقَتَهُم مرهونَةٌ بقرارٍ اتِّهامي يَصدرُ وَفقَ الأُصولِ عن المَجلِسِ النِّيابي. في الوقتِ الذي كان ينبغي عليه اعتمادَ الأُصولِ القانونيَّةِ وتكليفُ لَجنةِ تحقيقٍ نيابيَّةٍ كما سَبَقَ وأشرنا.

 

إن طبيعةَ حادثِ انفِجار المَرفأ توجِبُ السَّيرَ بمُساءَلَةٍ تَتناسَبُ مع حَجمِ الحَدثِ والمَخاطِرِ والمَضارِّ التي تأتَّت عنه، بحيث تأتي المُلاحَقَةُ شاملةٌ، وتَطالُ جَميعَ المُساهِمينَ في الجَريمَةِ سَواءَ كانت مَسؤوليَّتُهُم نابِعَةً عن نَوايا آثِمَةٍ أو عن تَقصيرٍ أو إهمالٍ وقِلَّةِ احتِراز، وأن تكونَ المَسؤوليَّاتُ مُتناسِبَةً مع المَوقِعِ الوَظيفي والسُّلطاتِ المٌخوَّلَةِ للمَعني والسُّلوكِ المُدان. وبالتالي ينبغي أن تَطالَ المُلاحقاتُ جميعَ الضَّالِعينَ في الجَريمَةِ ومن دون أيِّ استِثناء، سَواء كانوا من الجِنسِيَّةِ اللبنانيَّةِ أم من جِنسيَّاتٍ أخرى، بدءاً بالمُتورِّطينَ في تَدبيرِ شُحنَةِ مادَّة النِّيتراتِ وشؤونِ توضيبِها وشَحنِها وإدخالِها إلى حَرَمِ مرفأ بيروت، بالإضافَةِ إلى المَسؤولينَ عن التَّسبُّبِ بِتَفجُّرِها.

 

أمَّا وقد رشَحَ من تَناوُلِ الجَريمَةِ عبرَ وسائلِ الإعلامِ تَقصيراُ فاضِحاً لمَسؤولين لبنانيين سياسيين وقُضاةٍ وعَسكريينَ وأمنيينَ وموظَّفينَ في إدارَةِ المَرفأ والجَماركِ اللبنانيَّة، وبعضُهُم مَشمولٌ بحَصاناتٍ وبعضٌ آخَرَ تَستوجِبُ مُلاحَقَتَهُم الاستِحصالَ على إذن مُسبَق، لذا من الأهمِّيَّةِ بمَكانٍ توضيحَ مُستلزماتِ مُلاحَقَةِ كُلِّ فِئة منهم، ومن الطَّبيعي في حَجمِ هكذا جَريمَةٍ أن نَبدأ برأسِ الهَرَمِ، أي رَئيس الجُمهورِيَّة، ومِنه إلى أصغَرِ مُوظَّفٍ وعامِلٍ في المَرفأ تَترَتَّبُ عليه مَسؤوليَّة.

عميد متقاعد