تعددت السيناريوهات التي تحدثت عن مشاريع التسويات السياسية المطروحة لأكثر من ملف للخروج من مسلسل الانفاق التي دخلت فيها الدولة ومؤسساتها. وان قيل عن مقايضة «بين البيطار ومجلس الوزراء»، وما بين «الطيونة والمرفأ»، وما بين «الطعن بقانون الإنتخابات وموعدها» لن يكون فيه اي مفاجأة فالسلطة التي ولدت من رحم «تسوية 2016» العجائبية لن تتردد بعقد أخرى على حساب القانون والدستور. ولذلك ما نفع النفي؟ فهل هناك من يصدق؟
على وقع مجموعة السيناريوهات التي تنافست بكثافتها مع حجم الاحداث الكبرى التي شهدتها البلاد منذ تفجير العنبر «رقم 12» في مرفأ بيروت على اكثر من مستوى. وما شكّل قاسما مشتركا في ما بينها انها كانت في شكلها ومضمونها وتوقيتها من أسوأ الإستحقاقت التي عاشها لبنان منذ ما قبل الاستقلال، وربما منذ اعلان دولة لبنان الكبير الى اليوم. فتسارعت محطاتها وتدرّجت النكبات واحدة بعد أخرى الى ان شلت الدولة ومؤسساتها الى درجة فقدت فيها مبرر وسبب وجودها فتوقفت خدمات البعض منها وندرت أخرى وعاث الفساد في الباقي منها. وهو ما جعل من سلطاتها ومؤسساتها الدستورية مسرحا لمنافسة غير حميدة قادت الى مزيد من الأضرار بصورة الدولة ودورها وربما بكيانها والتي لا تقدّر بأي كلفة وثمن. وجعلت اللبنانيين والمقيمين يعيشون جحيم ازمات متلاحقة ومتناسلة لم يتوقع اي منهم ان يشهد على مثيلات لها الى درجة فقدت فيه اللغة العربية ومعها لغات العالم اجمع التعابير الكافية والصادقة لتوصيفها على حقيقتها.
وعليه، يعترف المراقبون العارفون بالكثير مما لا يمكن الافصاح عنه، ان في ما سبق من توصيف سوداوي للوضع في لبنان قد لا يفي بالواقع. والأخطر ان هناك من لا يزال يعد ويتوقع ويبشر بالأسوا مما نعيشه. وهو ما ترك باب المفاجآت مفتوحا على سيناريوهات لم تعد تثير الاستغراب والريبة أياً كان شكلها وحجمها. ومرد ذلك الى الفشل في إدارة الدولة ومؤسساتها، وقصور المعنيين بالملفات الحيوية على توفير اي حل لأي منها. فعقدت الصفقات وساد منطق توزيع المغانم على قاعدة من المحاصصة الى درجة بات كل فريق يتحكم بقطاع معين الى ان وقعت الواقعة في ما بينهم فانفرط عقد التسوية. وبدلا من الإعتراف بأخطاء الماضي وتصحيحها وترميم ما يمكن ترميمه، استعاد اهل السلطة انفاسهم بعد تفكيك انتفاضة 17 تشرين 2019 واستوعبوا نكبة مرفأ بيروت باعتبارها مأساة انسانية تستدعي الشفقة الدولية على لبنان. وبالرغم من كل ذلك، انطلقت حرب جديدة بين الاقطاب استخدمت فيها قدرات السلطات والمؤسسات والادارات في مواجهة داخلية قاسية لجأ فيها المتناحرون الى كل انواع المكائد والافخاخ الى ان دمرت او شلت او تفككت جميعها.
وفي ظل حال الإنكار والتبرؤ من المسؤولية ازاء ما حصل، تواصلت حملات التشهير، فالتقى الاقطاب مرة اخرى على تبادل وتوزيع الإتهامات في محاولة لالقاء المسؤوليات على أطراف اخرى داخلية وخارجية ضمانا لبقائهم في مواقعهم محتفظين بعروش واهية بات البعض منها مرفوعا على بساط من ريح. ولذلك عاشت البلاد شهورا في الفراغ في ظل حكومة تصريف اعمال، تزامن شللها وغيابها المطلق مع حال مماثلة في المواقع الحكومية والادارية والقضائية والدستورية عدا عن الاجتماعية والصحية والبيئية والكهربائية وصولا الى فقدان الادوية والمحروقات، فلجأ اللبنانيون الى مؤسسات بديلة توفر لهم ابسط الخدمات بكلفة لا تحتمل.
وعلى وقع هذه المستجدات، بقيت المعالجات جارية بالوسائل التقليدية المبنية على حلول مؤقتة وتسويات محدودة لم تقفل اي ملف خلافي. وما زاد في الطين بلة ما استجد من احداث قضائية رافقت التحقيق في جريمة تفجير المرفأ عندما لامست رئيس حكومة ووزراء ونوابا، الى ان شهدت الطيونة نموذجا امنيا خطيرا اعاد الى الاذهان الايام السود الى امضاها اللبنانيون على خطوط التماس رغم قناعتهم بزيفها وبأسبابها التي لا يمكن استعادتها من جديد. وبدلاً من تغليب منطق السعي الى احياء دور المؤسسات وفق ما يقول به الدستور أمعنَ اصحاب القوة في محاولات ابراز عضلاتهم من اجل شل الدولة.
وما ليس خافياً على اي من هؤلاء المراقبين، ان كل ذلك كان يجري على وقع الاستقواء بما يسمونه انتصارات قد تحققت في الاقليم. ولمّا بدأ الربط بين هذه العوامل الداخلية والخارجية وضع مصير المحقق العدلي في جريمة المرفأ على رأس اولويات بعض القوى السياسية وتقدم مشروع «قبعه» على ضرورة احياء العمل الحكومي ومواجهة الاستحقاقات المالية والنقدية والمعيشية الملحة كما المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. فوضع مصير الحكومة الوليدة حديثا وقبل ان تكمل اسبوعها السادس على مشرحة مطالعة وصفت بأنها قانونية ودستورية وقضائية لامست مطلبا تعجيزيا يقول بضرورة ان تلعب السلطة التنفيذية دورها في لجم القضاء وقبع قاضٍ بمعزل عن مبدأ الفصل بين السلطات الذي يحول دون الدخول الى سلك القضاء من خارج حرم المؤسسات التي تديره وتفصل في شؤونه.
عند هذه المعضلة اعتقد البعض ان مجرد ايكال المهمة الى اهلها من ضمن السلطة القضائية يمكن ان ينهي تجميد العمل الحكومي فبقي قائما. وقبل ان ينجح اي مسعى لتطبيق ما تم الاتفاق عليه جاءت الازمة الديبلوماسية مع السعودية ودول مجلس التعاون لتضيف سببا آخر الى عدم دعوة مجلس الوزراء من قبل رئيسه طالما ان وزير الإعلام لم يقدم استقالته طوعا، ولم يتوفر ثلثا اعضائها لـ»قبعه» ايضا فاستحال قيام الحكومة بأبسط مهامها.
وقبل ان يظهر عجز مجلس القضاء عن المس بقاضي التحقيق العدلي لأنه لم يخالف اياً من صلاحياته، ولماّ لم تنجح حرب دعوات الرد وكف اليد ومخاصمة الدولة من انهاء دوره، ادت التعديلات التي اجراها المجلس النيابي على قانون الانتخاب باكثرية مطلقة لا توافقية الى فتح الطريق امام ازمة جديدة تمثلت بالمراجعة التي تقدم بها رافضو التعديلات امام المجلس الدستوري، فطرحت مجموعة من الخيارات لمنع الوصول الى المرحلة الحاسمة من بينها المقايضة بين ما يمكن ان يمضي فيه المجلس وامكان تعديل موعد اجراء الانتخابات النيابية بحيث تتساوى مصالح الطرفين بطريقة من الطرق.
على هذه الخلفيات بُني الحديث على مبدأ المقايضة السائد في البلاد، خلافا لما يقول به الدستور والقانون وما هو قائم من اعراف. فطرحت المقايضة ما بين قاضي التحقيق العدلي واحياء العمل الحكومي قبل ان يضاف شرط جديد ربطه باستقالة او اقالة وزير الاعلام. كما اضيفت مقايضة اخرى طرحت في الكواليس بين البت بالطعن الدستوري وتحديد موعد الانتخابات. هذا عدا عن معادلات ومقايضات اخرى تتحكم بقطاعات الطاقة والنفايات والتعيينات الادارية والمناقلات القضائية والعسكرية فهل يدرك كثر ان جداول ترقية الضباط العقداء في الاسلاك العسكرية الى رتبة عميد ما زالت مجمدة منذ اول تموز الماضي بسبب المناكفات بين اهل الحكم.
وامام هذه الوقائع هل يفيد النفي في عدم وجود مقايضة بين هذه وتلك من القرارات والاجراءات وان صدر عن اعلى المراجع الرسمية فهل هناك من يصدّقه؟!