إندفاع وإصرار في وجه المماطلة والتضليل والضغوط… والتهديد
إنفجار، تفجير أو فاجعة 4 آب – التسمية لا تهمّ أمام هول ما حصل – يخترق رتابة أيامنا الحزينة في ذكراه الثانية. كثيرون تناولوه، كل من زاويته وموقعه. لكنّ قليلين تبنّوا، أو أقلّه يحاولون، إماطة اللثام عن خلفياته مثل هؤلاء. من هم؟ صحافيون ينقّبون ويبحثون، يدقّقون ويحقّقون. صحافيون إستقصائيون، مهمّتهم شائكة بامتياز. وفي بلد يُلاحَق، لا بل ربما يُعاقب، فيه كاشفو الارتكابات بدلاً من المرتكبين أنفسهم، تلبس الصحافة الاستقصائية طابعاً شخصيّاً. طابع هو أشبه بمزيج من تتبّع قضايا سامية ومغامرات فردية محفوفة بالمخاطر في آن.
…كيف إذا كان الحدث بحجم 4 آب؟ التحدّيات التي واجهوها كثيرة، بحيث تحوّلت محاولات كشف المستور والتقصير في ملف تفوح منه رائحة نيترات الأمونيوم المشؤوم إلى تصويب شخصي وتهديد فردي. مغامرون بادروا منذ الساعات الأولى على وقوع الجريمة وما زالوا. فماذا حقّقوا في ظل قضاء تتنازعه التجاذبات، مقيّد، غير فاعل وعاجز عن المحاسبة والمساءلة في جريمة العصر؟ دون التوسّع في الحيثيّات التقنية، ماذا يقولون عن تجربتهم هذه لـ»نداء الوطن»، وكم هو البون شاسع بين ما توصّلوا إليه وبين الحقيقة المشوّهة التي تحاول الأيدي الخفيّة تسويقها؟
العين على الفترة الزمنية الأهم
تعتبر الزميلة ليال بو موسى أن الانطلاق في عالم الصحافة الاستقصائية يرتكز على عدم تصديق ما يُقال: «كصحافية استقصائية، تمتدّ آفاق مهمّتي لتشمل التحقيق والبحث وليس فقط تغطية الخبر. هذا النوع من الصحافة هو الذي يصنع الخبر، لذا تروننا غير قادرين على غض النظر عن أي جريمة أو ملف فساد أو أي اقتراف دون أن نحقّق به»، كما تستهلّ حديثها لـ»نداء الوطن».
لنغُص في التفاصيل. فأكثر ما ساعد بو موسى وفريق العمل هو ما صدر عن المشتبه فيهم (في نظرهم) خلال الدقائق الثلاثين إلى الستين الأولى التي تلت وقوع الانفجار مباشرة. وتضيف: «إنها الفترة الزمنية الأهم التي تُبنى عليها المعطيات قبل أن يتسنّى لأحد إختلاق الأكاذيب وتأليف التبريرات أو فبركة الحديث». وبالفعل، تمّ عرض تسجيلات صوتية فور وقوع الجريمة على محطة «الجديد» لأشخاص أدلوا باعترافات سُمعت للمرة الأولى، منهم الوزير غازي زعيتر والمدير العام للنقل البري والبحري، عبد الحفيظ القيسي، كذلك الوزير يوسف فنيانوس وسواهم. وهكذا، جرى العمل على تجميع الكثير من المعطيات خلال اليومين الأوّلين اللذين أعقبا الكارثة.
ماذا عن أهمية التعاون مع صحافيين إستقصائيين آخرين؟ «الهدف هو تكوين صورة واضحة، وهي مهمة لا يمكن لشخص واحد إنجازها. تعاونّا، نحن مجموعة من الصحافيين الاستقصائيين الذين خضعنا لتدريبات على مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة. الهدف ليس شخصياً ولا نطمح لتحقيق شهرة فردية، إنما نسعى للوصول إلى أكبر قدر من المعلومات ذات الصلة». فهل أنتج التعاون نتائج ملموسة؟ للأسف، ورغم التواصل مع القضاء وتقديم إخبار في العدلية وعرض كافة المستندات والملفات على الجهات المعنية، إلا أن القضاء اللبناني مشهور بـ»جاروره» الذي لا يعرف أحد مكانه، كما تقول.
العمل لم يقتصر على الداخل، إذ تعاونت بو موسى مع منظمة هيومن رايتس ووتش التي قامت بنشر تحقيقها باللغتين العربية والإنكليزية، وتعتبر أن أقل ما تقوم به الصحافة الاستقصائية هو توعية الرأي العام من خلال تقديم الأدلّة الكافية لإثبات فساد المتورطين، رغم عدم تحرّك الجهات الرسمية اللبنانية كما الدولية. بو موسى لفتت إلى جوّ التشنّج والإرباك الذي خلقته الصحافة الاستقصائية للعديد من السياسيين: «يهرب السياسيون من الصحافي الاستقصائي رغم أنهم يحبّون الأضواء، وذلك بسبب الوقائع المباشرة أو غير المباشرة التي نواجههم بها من خلال الإثباتات والملفات».
نسأل إلى أين سيصل ملف 4 آب بحسب رأيها، فتجيب بو موسى متأسفة: «طالما أننا نعيش في بلد يشتعل فيه مسرح الجريمة بعد أيام من الانفجار وتتوالى محاولات العرقلة بشتّى الطرق المتاحة، علينا أن ندرك أن ثمة طرقاً غريبة لتضليل التحقيق. العرقلة في التحقيق والطريقة التي يتم التعاطي فيها مع الملف كذلك عدم توقيع وزير المالية تنفيذاً لأوامر عليا باتت أكثر من واضحة للجميع».
حدث عالمي كبير. هكذا وصف الزميل فراس حاطوم انفجار المرفأ. ومن هنا كان لا بدّ بالنسبة إليه من الإضاءة عليه بصفته صحافياً استقصائياً. حاطوم شرح في اتصال مع «نداء الوطن» كيف أن «بعض الزملاء كانوا حينها قد بدأوا بالعمل على الشق الداخلي اللبناني، متناولين ما حصل في المرفأ وأسباب تخزين البضاعة وغيرها من الأمور. أما الشق الخارجي، فلم يكن قد تطرّق إليه أحد بعد، لذا قرّرت أن أمنح التحقيق إضافة جديدة». وكانت نقطة البداية مع الشركة المسؤولة عن شراء النيترات بعد أن استوقفه الاسم (سافارو). ومن هناك انطلقت رحلته.
الصحافة الاستقصائية أينما كان هي أساس في مكافحة الفساد وكشف الجرائم وإعطاء الرأي العام المعلومة التي تكون أبعد من الخبر الرسمي. فكيف، إذاً، في لبنان الخاضع في كل شاردة وواردة لتدخّلات السلطة السياسية في ظل ضعف مزمن في أجهزة الدولة؟ لا يحتاج الأمر أكثر من التمعّن في ما يحصل مع القاضي طارق البيطار، وقبله القاضي فادي صوان، للتيقّن من أن رسم الخطوط الحمراء حقّ حصري للسياسيين. ويضيف حاطوم: «نحن نقوم بعملنا وفي أحيان كثيرة نعجز عن تغيير مسار الأمور كما يكون التحرّك والمتابعة الرسمية دون المستوى المطلوب. لكن وللأمانة أظهر القاضي البيطار تجاوباً ملموساً في متابعة الملف وتمّ التواصل معي من قِبَل مكتبه طلباً لتزويدهم بكافة المعطيات، لكن التعطيل السياسي حال دون إتمامه مهمّته».
نستوضح حاطوم عن سبب اندفاعه في متابعة التحقيقات رغم ما يتعرّض له من ضغوطات، فيعتبر أن واجبه الوطني وشعوره بالمسؤولية يتغلّبان على خوفه، معلّقاً: «لم أفكّر يوماً بالخوف بقدر ما فكّرت بأنني لبناني وصحافي استقصائي. فالإحساس هو الذي يدفعني قُدُماً مع علمي أن الخصم يمتلك قدرات وأجهزة تفوق أي إجراء يمكن أن أقوم به لحماية نفسي». أما أكثر ما أحبطه في ملف انفجار المرفأ، فهو اكتشافه بالملموس قدرة السياسة في لبنان على التحكّم بكافة مفاصل البلد القضائية والأمنية وغيرها. لكن، مع ذلك، فهو يؤمن بأهمية العمل الذي قدّمه والذي سيُستفاد منه حتى بعد سنوات.
كيف يختصر نتائج تحقيقاته؟ «بتلخيص للأحداث ونتائج التحقيقات، يمكن القول إننا لم نصل إلى الحقيقة الكاملة بعد. هناك محاولة لتسخيف الواقع من خلال التلميح بأن كل ما حصل هو وليد الصدفة، وأن الباخرة دخلت لبنان بالصدفة وأن البضاعة بقيت مخزّنة لسنوات بالصدفة أيضاً. لكن برأيي لا شيء حصل بالصدفة. هناك شركة وهمية قامت بطلب البضاعة ثم اختفت ولم تعد موجودة ولا تفاصيل عنها، ما يطرح الكثير من علامات الاستفهام»، بحسب حاطوم. فالرهان على عامل الوقت من قِبَل السلطة السياسية سيُفقد الرأي العام حماسته حيث إن العدالة المتأخرة هي أقرب إلى اللاعدالة. من هنا التشديد على مواصلة متابعة الملف ما يصعّب على السلطة الوصول الى هدفها المرجوّ، كما يختم… على أمل.
الجميع كان يعلم…
للزميل رياض طوق هنا تجربة ببُعد مختلف. هو الذي خرج من بين الركام بعد أن تضرّر منزله الكائن في منطقة الأشرفية. «اعتبرت نفسي معنيّاً كشخص متضرّر قبل أن أكون صحافياً استقصائياً. لذا لم أرغب في معالجة الملف بالطريقة التقليدية، بل أردت عرض الحقائق بالوثائق»، كما يخبرنا. فهو كان أول من أعلن في اليوم التالي للانفجار، عبر قناة MTV، عن اسم الباخرة التي أدخلت النيترات وعن المراسلات التي حصلت بين الجمارك وقاضي أمور العجلة، كما بين الجمارك ووزير المال في حينه، علي حسن خليل، إضافة إلى المراسلة التي وصلت إلى الجيش اللبناني بقيادة العماد جان قهوجي آنذاك. لكن من أين حصل على تلك المعلومات؟ «نقطة الانطلاق كانت مع أحد المسؤولين في إدارة الجمارك الذي تمكّن، خلال 24 ساعة، من إمدادي بالمستندات التي لها علاقة بباخرة النيترات، فعرضتها على الهواء في اليوم التالي مباشرة. وهذا ما عزّز لدي القناعة بأن الجميع كان على بيّنة بوجود المواد المتفجّرة»، بحسب طوق. العمل اليومي على الملف استمرّ حوالى السنة ونصف السنة إلى أن كُفّت يد المحقّق العدلي عن التحقيق لتتراجع وتيرة عمل الصحافة الاستقصائية خاصة أن لا جديد في المعطيات، كما يضيف.
إلى السؤال الجوهري والمتعلّق بالنتائج التي وصل إليها من خلال تحقيقاته. إذ يعزو طوق إصراره على استباق القضاء في التحقيق إلى عدم ثقته بالأخير، معتبراً أنه من الضروري وضع كافة المعطيات أمام الرأي العام تحسّباً لمحاولات طمس معالم الجريمة. وهذا، بالحقيقة، أدّى إلى ضغط شعبي هائل مُورِس في الملف ما يدلّ على نجاح العمل الاستقصائي الذي أدّاه في مكان ما. ويتابع: «استطعنا وضع جملة معطيات أمام الرأي العام كما نجحنا في التأكيد على التزامنا كصحافيين استقصائيين بقضايا المجتمع، لا سيّما في قضية الرابع من آب – الأهم من بين قضايا لبنان الحديث».
في سياق كلامه لـ»نداء الوطن»، أشار طوق إلى تعاون جمعه مع جهات صحافية أجنبية، منها ألمانية وفرنسية وأميركية. وقد تمّ تبادل المعلومات بين الصحافيين اللبنانيين والأجانب الذين تابعوا الملف نظراً لاهتمامهم بالشأن اللبناني، وهذا ما نسج شبكة علاقات في ما بينهم. عمله عرّضه لكثير من الضغوطات كي لا نصفها بالتهديدات: «حصل ذلك حين حاول أحد الأجهزة الأمنية تعقّب حركتي ومحاولة التنقيب في حياتي الخاصة عمّا يمكن أن يبتزّني من خلاله. لكن ذلك لا يخيفني، فكلّما تعرّضت لتهديد مبطّن كلّما أصبحت هجومياً أكثر».
طوق لا يخفي إحباطه في كل مرة لا تصل فيها الملفات الحساسة إلى خواتيمها المرجوّة. لكنه ما يلبث أن يستنهض عزيمته متسلّحاً بدعم الرأي العام له، موضحاً: «في حال تمكّنت من التأثير على 5% فقط من المشاهدين فهذا دليل على تأدية رسالتي بنجاح. مكافحة الفساد هي بالأمر الصعب، خاصة في الدول المتخلّفة حيث لا استقلالية لقضاء يرزح تحت سيطرة السياسيين».
طوق يوافق أن الحقيقة التي وصلت إليها التحقيقات الاستقصائية ما زالت غير مكتملة. التكتّم الشديد في التحقيق وظروفه سبب رئيسي، لكنه مقتنع بضرورة محاسبة المسؤولين المعنيين مباشرة بملف المرفأ، من وزراء مال وأشغال، إلى ضباط في الأمن العام والجمارك، كذلك الأجهزة الأمنية والقضائية. «إذا كان ما حصل يعكس سوء نيّتهم فليُحاكموا بتهمة القتل العمدي، وإذا كان إهمالاً فليدخلوا السجن لكي يكونوا عبرة لغيرهم».
رغم محاولات المماطلة لطمس معالم الحقيقة، إلّا أن طوق يرى أن «ثمة ملفاً وهناك محققاً عدلياً وأشخاصاً أصبحوا في موضع الشبهة. فما إن تتغيّر قواعد اللعبة السياسية وتضعف المنظومة التي تحمي هؤلاء، ستتم محاسبتهم عاجلاً أم اجلاً».
قد يكون صحيحاً أن العدالة المتأخّرة أشبه باللاعدالة. لكن أن تأتي متأخّرة خير، بما لا يُقاس، من ألا تأتي أبداً. أو هكذا سنبقى نردّد مع بيروت الجريحة على الأقل.