Site icon IMLebanon

هل تتذكّرون فرار الباخرة “أديريا أكسوي” من مرفأ بيروت؟

 

نصب وفاء والرصيف 16 كأنه كان في “المريخ”

 

البارحة كان 14 شباط. وقبل ستة أشهر و10 أيام كان 4 آب. وقبل 9 أيام كان اغتيال لقمان سليم… وتكرج التواريخ المخضّبة بالدم والموت والأسى كشلال مياه هادر لا يتوقف. ولكن، مهلاً، فلنتوقف نحن ونعُد الى الأرض المضرجة بالدم الغزير لنرى، ميدانياً، ماذا حلّ بمرفأ بيروت؟ ماذا عن رائحة الموت التي لا تزال تشتمها بيروت ومن يمرّ على الأوتوستراد الفاصل بين بيروت ومرفأ بيروت؟

بإذنٍ رسميّ دخلنا الى حرم مرفأ بيروت علّنا نلتقط في التفاصيل تفاصيل تجعلنا نميّز، بالعين المجردة، بين أسود حالك وأبيض غائب. هنا المدخل الرئيسي. هنا، عند المدخل، على الرصيف، جلس على الميلين أهالي ضحايا الرابع من آب. كانوا ينتظرون إشارة ما تقول لهم ان “أحبابهم” ما زالوا أحياء يتنفسون. هو الأمل. أوليس الأمل، في أحيان كثيرة، صبر المعذبين؟ حصل هذا قبل 190 يوماً. الأيام “تركض”. والشهر “ورا الباب”. ندخل. نتحدث مع “كولونيل” وهو المسؤول الأمني عن حرم المرفأ. يسجلون أسماءنا ويمشي أمامنا دراج يرتدي سترة “شعبة المعلومات”. الزفت باهت. وبضعة رجال يتكئون على رصيف النصب الذي بناه الإيطاليون في حرم المرفأ وذيلوه بعبارة “ذكرى التعاون الإيطالي- اللبناني عقب انفجار الرابع من آب 2020”. نقترب أكثر فنسمع قهقهات الرجال الذين أتوا ليتسامروا. هؤلاء موظفون في حرم المرفأ ولا عمل لديهم منذ ذاك اليوم المشؤوم. النصب الإيطالي كناية عن أرزة يحوطها “جنزير” سميك وناصية ويعلوه علم لبناني مزّق الهواء أرزته.

بعد 190 يوماً

 

على بعد مئتي متر نصب آخر دشنه قائد الجيش. وهو على شكل “تونال” مفتوح السقف، تحوطه شتول خضراء وأشجار زيتون وعبارة “وفاء لبيروت”. وها هي صورة الشهيد جواد شيا في الصدر. والده يأتي حاملاً معه إكليل ورد. يركع. يصلي. يبكي. ويغادر. يا الله. يا لهول آلام اللبنانيين على ابن وأب وأخ وزوج وابنة وأم وأخت وزوجة. زجاج كثير تحت أقدامنا. وسيارات كُبس حديدها مثل الجبن متكومة كتلّة من معدن. ورائحة كريهة تشتدّ كلما اقتربنا أكثر من الإهراءات. هناك، عند تخوم هذه الإهراءات، نكاد نسترجع كل الصراخ والعويل والأنين والوجع والدم والموت ووجوه شباب فوج إطفاء بيروت وهم يحاولون فتح باب العنبر رقم 12. هنا، على يسار إهراءات القمح كان العنبر. يدلنا عنصر شعبة المعلومات على مكان العنبر فلا نرى سوى سراباً. بقايا مستوعبات مملوءة بأكياس القمح الممزقة في الجوار ورفوف من الطيور والعصافير تغط وتطير. هي تقتات من القمح والطحين. ننظر الى فوق، الى الإهراءات المشلّعة، ثم ندير وجوهنا نحو بيروت. واجهة كل بيروت البحرية تلوح من هنا. وكلها تدمي القلب. هناك، على المباني المواجهة، أعلام لبنان. وهناك أيضاً شركة كهرباء لبنان. هدير شاحنة تقترب يعيدنا الى الواقع. سائقها هو السوري عبد الغني، ومالكها حسب بطاقة التعريف على الزجاج الأمامي هو متري عبدو. عبد الغني قرر أن يستريح قليلاً هنا ريثما تخف زحمة الإجراءات الجمركية. والشاحنة، على حدّ قوله، محملة بمواد غذائية (كبيس) ستُشحن الى خارج لبنان.

 

نقترب أكثر من الإهراءات، فتقترب منا سيارة ويبدأ ركابها المدنيون بطرح الأسئلة: ماذا تفعلون هنا؟ من أنتم؟ ما هي أسماؤكم؟ نجيب على الأسئلة بسؤال: ومن أنتم؟ يجيب أحدهم: نحن من الجمارك. نسأله: وماذا برأيك يمكننا أن نفعل بعد هنا؟ ماذا يمكننا أن نُحدث بعد كل ما حدث؟ يجيبنا بأسى: ذهب خمسة رفاق لي هنا. نردد معاً: الله يرحم كل الضحايا. ويتابع كل طرف مساره.

 

نتوجه نحو المنطقة الحرة في مرفأ بيروت مزودين بتحذير من عنصر “شعبة المعلومات”: “لفّة سريعة ومنفلّ”. لفينا. وانتقلنا من ميل لميل. رائحة كريهة تشتد كلما اقتربنا أكثر من جبل بقايا ركام 4 آب. الركام أصبح جبلاً آخر. هنا مدخل الجمارك. ثلاثة عناصر يستقبلون الشاحنات من مدخل آخر خاص. المدخل الرقم 2. وها هي شاحنة تدخل للتوّ. ووحدها عبارة مدونة على يافطة تخبرنا عن موقعنا: Sea port/Duty free. عمال أجانب يكبسون الحديد. وشركة خاصة تعيد بناء مستودعها. إنها تعيد بناء الأمل Rebuilding hope. وما عدا ذلك شبه فراغ.

 

ليست المرة الأولى التي يعاد فيها رسم الأمل في هذا الإطار المرفئي. فالمرفأ تعطل زمن الحرب ويوم عادت إليه الروح بعد انتهائها، عاد إليه 145 مستورداً كانوا قد غادروه. ترى سيعودون مجدداً هذه المرة؟

 

ونجا الرصيف الرقم 16

 

ندخل الى الرصيف الرقم 16 وكأننا انتقلنا من لبنان الى “المريخ”. وكأن هذا الرصيف وما يحتوي لم يسمع حتى بانفجار 4 آب. نشأ الرصيف هذا على أعمدة أنبوبية مصنوعة من الفولاذ، مثبتة في الصخر، وجُهزت عليه عشرات الأوناش والسكك. مشهد رائع. فما السرّ في بقاء هذا الرصيف سليماً؟ يجيب أحد العاملين: السرّ في وجود السفينة RAMI M على الرصيف، وهي تقف بالعرض بين الرصيف 16 وشحنة الموت في العنبر رقم 12. هي تأذت كثيراً لكنها حمت الرصيف. يتوجه نحونا أحد العمال بالثياب الفوسفورية معرفاً عن نفسه: رئيس حرس مرفأ بيروت بلال برجاوي. فماذا عن حدود عمل حرس المرفأ؟ وماذا عن حراسة العنبر رقم 12؟ يجيب برجاوي “كنا 35 حارساً غادر منهم، بعد 4 آب، خمسة عشر، فأصبح عددنا اليوم عشرين حارساً. ويستطرد: دورنا يقتصر فقط على منع عرقلة السير ومن يقف في نصف الطريق نقول له “يا با شيل السيارة”. وماذا عن العمل اليوم على الرصيف رقم 16؟ يجيب: “أكثر البواخر التي تشحن عليه هي بواخر CMA الفرنسية”. ننظر حولنا، الى البحر الهادئ، وننظر الى اعلى سفينة راسية فنرى علماً تركياً. إنها السفينة إيما الآتية من إزمير. تذكرنا هذه السفينة، من حيث لا ندري، بسبب الإنتماء ربما، بالباخرة التركية أديريا اكسوي التي كانت لها قصة غريبة عجيبة قبل 28 عاماً. نسأل أحد المسؤولين السابقين في مرفأ بيروت عنها فيحك كثيراً في رأسه ثم يجيب: “انها قصة قديمة أحاطتها علامات استفهام كثيرة والدولة حققت فيها كثيراً واستمرت تحقق وتحقق بلا نتيجة. هذه القصة كانت علامة سوداء في سجل لبنان دولياً”.

 

كم أصبح عدد نقاط لبنان السوداء دولياً! فلنعد 28 عاماً الى الوراء لنسأل: ماذا كان في تفاصيل أديريا أكسوي؟ في القصة أنه ليل السبت – الأحد، 16-17 تموز عام 1994، هربت باخرة تركية محجوزة قضائياً وعليها 16 شخصاً من الرصيف الرقم 11. هذه الباخرة كانت تحت الإشراف المباشر لرئاسة المرفأ. وهذه الجهة لم تبلغ، كما قيل يومها، غرفة الملاحة والجمارك وأمن عام المرفأ، عن الحجز. غير ان رئاسة المرفأ اكدت انها فعلت. بلّغت؟ لم تبلغ؟ بلغت؟ لم تبلغ؟ مرّ 28 عاماً وها نحن نلعب مجدداً لعبة وردة المارغريت مع هنغار نيترات الأمونيوم: كانوا يعرفون؟ لم يكونوا يعرفون؟ بلى، كانوا يعرفون…

 

يا الله كم يشبه اليوم البارحة لجهة تضارب المعلومات. نرجع الى الحاضر، الى سنة 2021، وننظر مجدداً حولنا. هناك سيارة تقترب فيها شابان أيضاً مدنيان سألا: من أنتم؟ ماذا تفعلون هنا؟ كيف دخلتم؟ نرد على الأسئلة بسؤال: ومن أنتم؟ أجابا: نحن من استقصاء الأمن العام. نخبرهما أننا “نتفرج” (بإذن رسمي من الجيش اللبناني) على التخاذل الرسمي الهائل الذي سبّب الكثير من الدم والدمار والوجع. يأخذان أسماءنا ورقم السيارة ويغادران. لحظات ويعودان لطرح سؤال جوهري: وماذا ستكتبون عنا؟ إبتسمنا لهم قائلين: يلي بتستاهلوه…

 

نشفق على العناصر الأمنية. نشفق على أنفسنا. نشفق على لبنان. نشفق على أهل الضحايا. وكم نشفق على سمعة لبنان.

 

نخرج من مرفأ بيروت. نمرّ مجدداً من أمام نصب “وفاء لبيروت”. نبتسم. مئات بقايا السيارات المستوردة الجديدة بلا زجاج لكنها لا تزال، بسحر ساحر، صالحة للسير من جديد. وعاملٌ يتمشى. هو كان هنا في 4 آب وفقد بعده 90 في المئة من سمعه لكنه خرج حياً. تتحقق في هذا المكان مقولة “اللي إلو عمر ما بتقتلو شدّة”.

 

في خارج حرم مرفأ بيروت آرمة كبيرة مكتوب عليها “بيروت ما بتموت”. نتمنى لو نصدق. نبتعد قليلاً. إشارات السير محطمة. نمر أمام قاعدة بيروت البحرية، ووحدة شرطة بيروت، ومفرزة سير بيروت… نصل الى السان جورج. هنا قُتل رفيق الحريري. البارحة كان 14 شباط. يا لهول المحطات الدامية التي مرّ فيها لبنان. فماذا عن “بكرا”؟ بالنسبة لبكرا شو؟ ثمة شوك كثير لكن حوله توجد وردة. فلنظل نحلم ببكرا.