Site icon IMLebanon

سلسلة مراسلات مرفأ بيروت: الموت في التفاصيل

 

 

أسئلة موضوعية، بعيدة من التهويل والتحريض أو المبالغة تُطرح… كيف لموظّف مدني أو ضابط غير ذي اختصاص أو صلاحيات، تحمّل المسؤولية الأمنية لنيترات الأمونيوم إذا ما كانت الأجهزة العسكرية المختصّة قد غفلت عنها؟ وتهاون بها القضاة تباعاً؟ وماذا عن التشابكات العائلية بين المسؤولين وزارياً مع الجسم القضائي المسؤول في الحسم؟ فبحسب ربّان السفينة، إن مكتب المحاماة الذي لاحق شكوى طاقم الباخرة هو “مكتب بارودي”، وكان بالصدفة البحتة السيد “محمد زعيتر” إبن وزير الأشغال غازي زعيتر آنذاك والمعني بالملفّ، وابن أخت مدّعي عام التمييز المعني بالملفّ أيضاً القاضي غسان عويدات، يتدرّج عنده، والربّان يبرز “بطاقته ورقم هاتفه الشخصي كمرجع”، بالرغم من أنّه لم يتوكّل في نصّ الوكالة مباشرة؟ وما هذا “الصمت المريب” عن مواد خطرة بهذا القدر “يُردّ شكلاً” مرات عدّة من قاضي العجلة جاد معلوف؟ ولماذا التركيز العدلي في التحقيق على شقّ الإهمال الإداري من دون الإهمال العسكري والقضائي؟ وماذا عن الشقّ الجنائي في استقدام المواد؟ وكيف للنيابة العامة التمييزية أن تصحّح عدم ملاحقة المعنيين المباشرين من قضاة أو عسكريين ضمن “فترة الجرم المشهود”، أي 7 أيام، حيث لا تنفع حصانة أو محسوبية؟!

 

موت “على عجلة”

 

من البديهي أن نبدأ معالجة الملفّ من نقطة الصفر، حيث أمر قاضي العجلة جاد معلوف بـ”تفريغ وتخزين 2750 طناً من نيترات الأمونيوم “ذات الكثافة العالية”، فجأة تبيّن أنّها ليست لأحد، ومجهولة التبعية في المرفأ وعلى وجه العجلة، وذلك بالرغم من أنّ الشاري كما هو مسجل هو شركة اسمها fabrica de explosives، أي ما يُترجم باللغة العربية بـ”شركة تصنيع متفجّرات”، مربوطة باعتماد مصرفي ومانيفست يوضح أنّ البضاعة المحمّلة “خطيرة التصنيف” ولتصنيع المتفجّرات تحديداً، ويُمنع بحسب الأصول إخراجها من السفينة ما لم تكن مرفقة بترخيص صادر عن الإدارات المختصّة في وزارة الدفاع وقيادة الجيش على أقلّ تقدير. كلّ ذلك، من دون أن يطلب أي تقرير خبير عسكري للكشف على مدى خطورتها، ووضع شروط التفريغ والتخزين إذا ما اقتضى الأمر ذلك، وتعيين “حارس قضائي” ذي صفة، لأنّ الذي تم تعيينه “محمد المولى” تحفّظ عن ذلك.

 

في المتابعة القانونية، تشرح الإعلامية غادة عيد، الكاتبة المتخصّصة في المجال الإداري القانوني لـ”نداء الوطن” أنّه بعدما تقدّمت الدولة اللبنانية من خلال المديرية العامة للنقل البرّي والبحري بشخص عبد الحفيظ القيسي، بطلب من قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف لحلّ المعضلة، قرّر معلوف في 27 حزيران 2014 تعويم السفينة بعد نقل البضائع إلى ما سمّاه “مكاناً مناسباً” لتخزينها تحت حراسة المديرية العامة للنقل، من دون الموافقة على بيع البضائع، معتبراً أنها ليست من صلاحياته. وهنا تجدر الإضاءة على عدّة نقاط أهمّها أنه كقاضٍ، أغفل عن المادة 76 أسلحة (المرسوم الإشتراعي رقم 137/1959) والتي تعاقب على شراء أو بيع أو نقل أو اقتناء أو صنع شيء من المتفجّرات وتسمّي النيترات بالإسم وتنصّ في المادة 17 منه على أنّ اقتناء هذه المادة بحاجة لإجازة مسبقة واعتبرت المادة 2 منه أنها من الذخائر، فلماذا لم يطلب مصادرتها فوراً من الجهة العسكرية؟ّ!”

 

وتكمل عيد “إلا أنه وبعد هذا القرار الأول للقاضي معلوف، تمّ إعلامه في 5 كانون الأول 2014 وبموجب كتاب رسمي، أنه قد تمّ بتاريخ 23 تشرين الأول 2014 إفراغ حمولة الباخرة “روسوس” عملاً بقراره القضائي وأنها أدخلت إلى المخزن الجمركي رقم 12. وبما أنّ المادة 393 من قانون الجمارك تحصر تمثيل المديرية العامة للجمارك بشخص المدير العام، لأنّ الجمارك تتمتّع بالشخصية المعنوية المستقلّة عن الدولة، جاء في كتاب المدير العام للجمارك شفيق مرعي طلب “بالترخيص لإعادة تصديرها إلى الخارج بصورة فورية وذلك حفاظاً على سلامة المرفأ والعاملين داخله”، إلا أنّ القاضي معلوف ردّ طلب شفيق مرعي (المدير العام آنذاك) بالشكل خلافاً للمادة 393!”.

 

العنبر 12 ليس “مناسباً”

 

أمّا الخطأ فهو، كيف لم يستنفر القاضي معلوف على المكان غير المناسب الذي تمّ تخزين النيترات فيه خِلافاً لما ورد في قراره! ولم يستوقفه الخطر، ولم يستعجل في استدراك المخالفة القانونية للمادة 249 التي تحظّر إدخال بضاعة نيترات الأمونيوم إلى المنطقة الحرّة كونها من “البضائع الممنوعة منعاً مطلقاً لمخالفتها النظام العام، ومن البضائع القابلة للالتهاب والأسلحة الحربية والذخائر والمتفجّرات”، ولم يراسل النيابة العامة بهذا الخصوص. فضلاً عن أنّ تخزين النيترات كمواد شديدة الخطورة ومتفجّرة في العنبر 12 هو مخالف قانوناً للمادة 227 من قانون الجمارك، كونها لا تحتكم للشروط التي تنصّ على أنه “يجب أن تكون منعزلة عن كل بناء، ولا يجوز أن تكون كمستودع في منطقة المرافئ نفسها، ويجب أن تكون المستودعات مسوّرة وِفقاً لشروط الاحتراز والأمان”، كما أنّ القاضي معلوف، وبردّ هذه الرسالة شكلاً من دون الإحاطة بخطر المادة في المكان الموضوعة فيه، قد أغفل أيضاً عن أنّ المادة 205 من القانون التي لا تجيز وضع “البضائع المتفجّرة والمواد الشبيهة لها والمواد القابلة للإلتهاب مع البضائع التي يتعرّض وجودها في المستودع لأخطار!

 

وبأيّ قانون يُجاز تفريغ بضاعة خطرة في حين أنّ القانون قد حظّر إدخالها إلا بقرار من “مجلس الوزراء بعد موافقتي وزارتي الدفاع والاقتصاد” من دون الحاجة في هذه الحالة تحديداً الى إعادة الإحالة إلى هيئة القضايا. ما يعني أنه، وعملاً بما رآه قانونياً قراراً صائباً، أدخل البضاعة إلى المرفأ من دون إعلام أي جهة معنية بتحديد حجم الأخطار، وبعدها رفض ثلاث مرات متتالية البتّ بتصحيح الخطأ بذريعة عدم الاختصاص، وكيف قرّر تفريغ البضاعة في المرفأ، ومن ثم عندما راسله “مدير الجمارك” بالسؤال “طلباً بالترخيص لإعادة تصديرها إلى الخارج بصورة فورية” لم يشر له أنّ بإمكانه فعل “ما يراه قانون الجمارك مناسباً من دون العودة إليه”، ما يسمح للجمارك حينها، بالقرار الحرّ والتام بالتصرّف بالنيترات، إن كان ذلك إتلافاً للمواد أو إعادة تصدير لها عملاً بالمادة 144 من قانون الجمارك، والتي يمكن عبرها للجمارك إتلاف البضاعة التي يثبت من المعاينة أو التحليل مخالفتها للقوانين والانظمة، بخاصة أنّ نفس المادة تقول إنّه “يمكن فرض إعادة تصدير البضاعة بدلاً من إتلافها، اذا كان من شأن الاتلاف الإضرار بالبيئة، وذلك ضمن الشروط التي يحدّدها مدير الجمارك العام”. وبهذا يكون ترك الحلّ للمرسل، وصحّح أي معلومة غير واضحة لدى الجمارك، وليس فقط أن يوضح أنه ليس المقرّر المختصّ بالنظر بأصل الحقّ. فالجمارك اعتبرت أنه لم يعد بالإمكان تخطّي القرار القضائي الصادر عنه كونه قراراً لا يُكسر إلا بقرار آخر صادر عن محكمة استئناف، فشُلّت يد إدارة مرفأ بيروت وما كان منها إلا أن أرسلت مراراً وتكراراً كتب بحلول مختلفة، فكرّر القاضي معلوف للمرّة الثانية والثالثة والرابعة فعل “ردّ القضية شكلاً” خِلافاً للمادة 393، مع عدم الإستنفار لكونها تمّ حجزها في مكان غير مناسب قد أعلموه به. هذا التخزين الذي تلمّست الإدارة خطره، فطالبت بإزالة نقل خطر البحر إلى البرّ بقرار القاضي نفسه. ناهيك عن عدم الإلتزام بمعاهدة هامبورغ للشحن البحري، إذ كان يجب إتلاف المواد بدل إفراغها ومن دون أن تتحمّل الدولة أي نفقة.

 

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المدافعين عن القرارات القضائية الصادرة عن قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف، يرون بأنّه قاضٍ مشهود له بالكفاءة، ومحكوم بصلاحيات جدّ محدودة، بخاصة في موضوع “النظر بأصل الحقّ”، كما أنّه لا يمكنه التوسّع بالتفسير والنطق بالحكم بخاصة لحجم القضايا والملفّات التي تُعرض عليه بشكل يومي. وعليه، إذا أتته مراجعة وجد أنّها آتية من قبل مرجع غير ذي اختصاص، يعود له التحديد بردّها شكلاً من عدمه. ويسألون: كيف يمكن لشخص القاضي أن يردّ مراجعة الجمارك عدّة مرات ويعاود الجمارك مراجعته بنفس المسألة؟ وهل يمكن له فعلاً تحديد حجم الكارثة ما إذا كان الطرف العسكري المختصّ لم يحجز عليها كبضاعة؟

 

لم تتنفّس بيروت الصعداء بعد، ويبدو أنّ “التفتيش عن ذبيحة شعبوية مناسبة” سيحبس أنفاسها ويؤجّل راحة من ذهبوا ضحية إنفجار مرفئها إلى وقت قد يطول أوانه. وفي سلسلة مراسلات القضية الأولى تفاصيل كثيرة يصعب تفنيدها في تحقيق استقصائي واحد، بحيث وبالرغم من مرور 7 أشهر على قنبلة الإهمال الأمني، الإداري، العسكري والسياسي، لم يتمكّن القضاء حتّى الساعة من فضّ أي التباس واختلاط واشتباه وارتياب، ولم يخلص إلى الحقيقة المنتظرة التي تمسك بخناق الجميع من أعلى الهرم إلى أسفله. أما صبر أهالي الشهداء على مصابهم، فأمر يستحقّ الإشادة به من دون مبالغة، لما في أمر دولتنا من حقائق لم تكشف ولو بعد سنوات من التحقيق.