لم يؤثر انهيار صومعتين من الجهة الشمالية لمبنى أهراءات مرفأ بيروت على موقف المطالبين بالمحافظة على ما تبقّى من المبنى ليبقى شاهداً على فظاعة ما ارتُكب في 4 آب 2020. المواجهة القائمة مع الدولة حول مصيره مستمرة، تنتظر ردّ مجلس شورى الدولة على ثلاث مراجعات قدّمها أهالي 23 شهيداً، أو إقرار أحد مشاريع القوانين الثلاثة المقترحة لحمايته
على بعد شهرٍ واحد من حلول الذكرى الثانية لانفجار 4 آب، انطلقت الحملة التضامنية لحماية أهراءات مرفأ بيروت. لم يكن دافع تلك الولادة، التي حملت عنوان «الشاهد الصامت»، عبثياً. فثمة وجع ممتد منذ عامين يشدّ أهالي الشهداء، وهم جزء أساسي من الحملة، إلى ذاك المكان. أمر دفعهم إلى المطالبة المبكرة بالحفاظ على ما تبقّى من الصوامع كشاهد على فظاعة ما ارتكب، معتبرين أنها ليست صوامع من حجر وظيفتها تخزين الحبوب للأكل، وإنما «قصة بشر»، على ما يقول إعلان الحملة التضامنية.
قد يكون السبب عاطفياً في المقام الأول، إلا أن الأهالي والمدافعين عن بقاء الأهراءات يرفضون حشر قضيتهم في هذه الزاوية فقط، لأن ما حدث «لا يخصّ فقط العائلات التي فقدت أحباءها، وإنما يخصّ بلداً بأكمله»، بحسب المحامية سيسيل روكز، شقيقة جوزف، الذي استشهد في الانفجار، والتي تقدّمت أخيراً بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة رفضاً لقرار الحكومة اللبنانية هدم المبنى.
تشبّه روكز ما حدث بـ«القنبلة الذرية» التي جرفت جزءاً من المدينة وناسها، ولذلك «في تلك الحالة التي تشبه الحرب وعندما يسقط شهداء، فالأجدر أن نخلّد ذكراهم من خلال الإبقاء على شاهدٍ ما». ثمة سبب آخر يضيفه الأهالي للحفاظ على هذا الشاهد، وهو أن «الأهراءات ومحيطها لا تزال مسرحاً للجريمة»، ولذلك «لا يجب أن تُهدم». وهم لا يربطون سقوط صوامع من الجزء الشمالي للمبنى برغبتهم الإبقاء على الأهراءات. لقد فصلوا منذ البداية بين الجهة المعرّضة للانهيار وبين الجهة الجنوبية التي لا تزال ثابتة حتى اللحظة لتكون هي الجزء الشاهد وتخلّد ذكرى من سقطوا.
مواجهة أمام القضاء
لكنّ للحكومة رأياً آخر، تمثّل في قرارها «تكليف مجلس الإنماء والإعمار بالإشراف على هدم الأهراءات، ووزارتي الثقافة والداخلية بإقامة نصب تذكاري لشهداء انفجار المرفأ» في 14 آذار الماضي، والذي أتى بناءً على توصية اللجنة الوزارية الرباعية المؤلفة من وزراء الدفاع والعدل والأشغال العامة والنقل والبيئة والمكلّفة بدراسة وضع المبنى.
ردّ الأهالي من خلال تقديم مراجعات قانونية أمام مجلس شورى الدولة للمطالبة بوقف التنفيذ. وتمثل هذه المراجعات، التي قُدّمت في 15 حزيران الماضي، عائلات 23 شهيداً، وهي مراجعة «المفكّرة القانونية» (المفكرة وأرملة أحد الشهداء) ومكتب الادّعاء في نقابة المحامين بالوكالة عن عائلات 19 شهيداً، ومراجعة ثالثة تمثل عائلات 3 شهداء.
يستند الأهالي في مطلبهم وقف قرار تنفيذ الحكومة إلى مجموعة من الدراسات العلمية، ومنها دراسة المهندس الفرنسي إيمانويل دوران، ودراسة خطيب وعلمي، ودراسة عميد كلية الهندسة في الجامعة العربية الدكتور يحيى تمساح، ودراسة نقابة المهندسين في بيروت التي أشارت إلى حتمية الترميم والتدعيم. وقد خلصت جميع هذه الدراسات إلى أنه «لا يوجد خطر داهم لسقوط الأهراءات، بل يوجد خطر وقوع بعض الألواح التي قد تُلحق أضراراً محلية في مكان ارتطامها»، بحسب ما ورد في مضمون الشكوى التي تقدّمت بها عائلة أحد الضحايا و«المفكرة القانونية». كما لم تحصر أيّ من الدراسات، بحسب الأهالي والمحامين المتابعين للشكاوى، الحلول بالهدم فقط، وإنما «كان هناك خياران: إما التدعيم أو الهدم، وقد أعطيت التوصيات في كلتا الحالتين»، على ما تقول المحامية غيدا فرنجية.
الهدم قرار مُسبَق
لكنّ هذه الدراسات، هي نفسها التي استندت إليها الحكومة في قرارها الذي قضى بالهدم من دون التفكير بالخيارات الثانية، ما أثار شكوكاً لدى الأهالي حول سبب هذا الإصرار، وضاعف من شكوكهم «ترك الأهراءات تشتعل كي تسقط وحدها»، تقول روكز.
يصرّ الناشطون في الحملة على اعتبار المسار الذي سلكته الدولة منذ اللحظة الأولى لوضع مصير الأهراءات على طاولة البحث «قراراً مسبقاً الهدم»، بحسب فرنجية، مستندين في ذلك إلى «السؤال الذي كانت وجهته الحكومة إلى شركة خطيب وعلمي: كيف نهدم؟ وهذا يعني إنكار أي قيمة معنوية للمرفأ، وهو الشيء الوحيد المتبقّي الذي يرمز إلى ما حدث معنا».
يستند الأهالي كما الحكومة إلى الدراسات نفسها ليبرّر كلّ منهما موقفه
ومعطوفٌ على هذه «الدلالات»، بحسب الأهالي، مآل المراجعات الثلاث، إذ يشير المحامي شكري حداد، ممثل مكتب الادّعاء لدى نقابة المحامين، إلى أنه «حتى اللحظة لا جواب، على الرغم من انقضاء مهلة شهر». لا بالسلب ولا بالإيجاب، فالدولة لم ترسل جواب الرد خلال المهلة القانونية المفترضة المحدّدة بأسبوعين، أضف إلى ذلك أن مجلس الشورى نفسه لم يصدر أيّ قرار في ما يخصّ وقف التنفيذ المؤقّت، خصوصاً «أنه يمكنه ذلك من دون انتظار جواب الدولة»، تضيف فرنجية.
وإلى الشكاوى، قدّمت مجموعة من النواب قوانين تحمل صفة العجلة للحفاظ على الأهراءات من الهدم، ومنها مشروع القانون المعجّل المكرر الذي تقدمت به كتلة الجمهورية القوية، والذي لم يُدرج على جدول أعمال الجلسة العامة لمجلس النواب، أما المشروع الآخر والذي تقدّمت به كتلة الكتائب فقد أعيد تحويله إلى اللجان للدرس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المشروع الثالث الذي تقدّمت به النائبة بولا يعقوبيان، والذي سقطت عنه صفة العجلة مع رفع الجلسة العامة قبل أيام.
حمية: لم نغفل وجع الناس
يحسب وزير الأشغال العامة والنقل حسابات كثيرة لوجع الناس. بالنسبة إليه، لا تُحل تلك المسائل بطريق أُحادي، ولذلك «لم تكن النظرة إلى مصير المرفأ منذ اللحظة الأولى استثمارية محضاً». من هنا، يعيد حمية التأكيد على أن «مقاربة موضوع الأهراءات لم تكن يوماً مقاربة غير موضوعية أو غير علمية أو أنها لا تلحظ البعد الإنساني». وهذا يعني أن «إعادة إعمار المرفأ من دون ترك أثر تخليدي لأرواح الشهداء هي خطأ، إذ لا يمكن أن أبني وأنا أدوس على مشاعر الناس». هذه المعادلة تقود إلى الخلاصة التالية: «الاستثمار الأمثل للمرفأ من خلال إعداد مخطط توجيهي يراعي المعايير العالمية، مع الأخذ في الحسبان ما قرّره مجلس الوزراء من خلال إقامة نصب تذكاري للشهداء، أسوة بالتجارب في كلّ دول العالم».