في نهاية العام 1990 شكلت الحكومة لجنة موقتة لإدارة مرفأ بيروت تحولت مع مرور الوقت الى لجنة دائمة بحكم استمرارها رغم افتقادها إلى اطار قانون مؤسساتي. لا تخضع لأية رقابة على الرغم من أنها تدير مرفأ عاماً وتنفق أموالاً عمومية. مع الوقت تحول هذا المرفأ الى مؤسسة فاشلة من خلال عدم تعيين مجلس ادارة ولعدم قانونية ادارته، وليس هذا فحسب، فالمرفأ الذي يضم كل الاجهزة الامنية يفتقد الى الأمن. تعددت الجهات المسؤولة عنه حتى ضاعت المسؤوليات وكثرت الاجهزة الامنية حتى ضاع قرارها. القطاع الذي يفترض انه يدر اموالاً على الدولة موارده عرضة للهدر.
كانت تنقصه كارثة الرابع من آب لتكشف فشل ادارته. لكن مأساة ذاك التاريخ المشؤوم لم تكن لتكفي، وفيما البلد يخضع ضمناً لحالة طوارئ، تسببت ورشة تلحيم ثانية بحريق هائل قضى على معظم المواد المخزنة داخل السوق الحرة. ألف سؤال وسؤال وليس من عذر واحد يسمح بخلق أسباب تخفيفية للجناة. ليس المجرم من يقتل بقوة السلاح فقط فالاهمال الذي يتسبب الاذى ويودي بأرواح الناس هو جرم يعاقب عليه. لم يكد يمضي اربعون يوماً على كارثة المرفأ الاولى حتى اقترنت الذكرى الاليمة بحريق هائل شب داخل السوق الحرة، وقبله كان شب حريق تمكنت الفرق المختصة من اخماده في المكان ذاته. مسافة جغرافية تفصل بين الكارثتين لكن قاسمهما المشترك بقي واحداً وهو الحادث المتعمد أو الاهمال. فرضيتان تضعهما مخابرات الجيش التي باشرت تحقيقاتها امس على طاولة الاحتمالات قبل ان تستعرض ملابسات ما حصل بتفاصيله. ولكن كيف يمكن اثبات الجرم المفتعل في مثل هذه الحوادث؟ وهل شهد لبنان سابقة مماثلة من قبل؟
قبل أيام طلب الى الشركات معاودة العمل لترتيب بضائعها داخل السوق الحرة. هذه السوق التي يمنع دخولها الا على اصحاب الشركات التي تستأجر مساحات داخل المرفأ لتخزين بضاعتها، وعناصر ادارة المرفأ. ويتم الدخول اليها عن طريق شارل حلو وليس عن طريق المرفأ. 142 حاوية من المواد الغذائية والاطارات إشتعلت بسبب عملية تلحيم جرت بطلب من احدى شركات نقل البضائع. وبناء على التحقيقات الاولية للشرطة العسكرية تم توقيف 23 شخصاً خضعوا للتحقيق ليطلق سراح 14 من بينهم ويبقى 9 قيد التحقيق.
المشكلة ان هذه الشركة أوكلت للعمال القيام بأعمال التلحيم من دون وجود مراقب على عملهم او اتخاذ اجراءات الحماية الوقائية، لا سيما وان عملها مشابه للعمل الذي قيل إنه تسبب بوقوع كارثة الرابع من آب الماضي. ولذا تم توقيف المهندس المسؤول عن الورشة بسبب تغيبه عن عمله وآخرين.
على فداحة ما حصل يمكن لاهمال بسيط ان يتسبب بكارثة. ذاك الاهمال الموجود في كل ادارات الدولة والسبب الرئيسي في تخلفها، ولو كان الفساد وسوء الادارة يؤديان دائماً الى حريق كما حصل في المرفأ لكنا رأينا كل إدارات الدولة ملتهبة. ولكن ماذا عن فرضية العمل التخريبي وهل يعقل ان يقع حادثان بهذه الضخامة من دون مسبب وفي مرفأ بيروت؟ يؤكد مصدر عسكري متابع ان فرضية العمل المفتعل واحدة من الفرضيات التي سيتم التحقق منها ولكن بالمقابل قد يكون الحريق نشب بناء على شرارة لهب بسيطة بالفعل، وبالنظر لما يحتويه من بضائع فالمرفأ عرضة دائمة للإشتعال. ولكن كيف لورش التنظيف والترميم الا تتخذ اجراءات حماية لتجنب وقوع حوادث مماثلة؟ هنا ايضاً لا بد ان تدخل فرضية ثالثة وهي رغبة الشركات التخلص من بضائع تضررت في الكارثة الاولى بهدف التعويض بطريقة قانونية.
الخوف الاكبر من عدم وجود رادع بحيث يصعب الوصول الى نتيجة للتحقيقات لكون العمل المفتعل يصعب تحديده في حادث بهذا الحجم، كفيل بالاطاحة بأي أدلة ممكنة اللهم الا من خلال الاعتراف المباشر لاحد الموقوفين. لغاية اليوم لم يتم الحسم اذا كان سبب الانفجار الاول شرارة تلحيم انتقلت من مخزن المفرقعات الى المواد المشتعلة وصولاً الى نيترات الامونيوم. المشكلة هي في تأثير الرأي العام على سير التحقيق بحيث يستحيل اذا ما اتضح وجود اهمال ان تخرج نتيجة التحقيق مجرد إهمال، ولذا قد يلجأ المحقق الى تطبيق احكام المادة 547 اي القتل قصداً والمادة 189 التي تتحدث عن القصد الاحتمالي وهذا غير ثابت بعد.
ليس مرفأ بيروت سوى نموذج من نماذج الدولة الفاسدة. تم تصويره دائماً على انه والحدود ممرات التهريب لـ”حزب الله”، بينما كانت وضعيتهما كما المطار ترضي زعامات الطوائف في لبنان وتتوافق مع مصالحهم. عبر مرفأ طرابلس عبرت داعش الى لبنان وعبر الحدود تم التهريب الى جماعات المعارضة في سوريا. المطلوب اليوم الغاء دور مرفأ بيروت وجعله والحدود من ضمن الاسلحة التي يضغط من خلالها على “حزب الله”. توظيف سياسي جديد في مجتمع قابل للإشتعال في اي لحظة تماماً كما المرفأ.
بلد يرزح تحت عبء 150 مليار دولار من الدين بفضل نظام المحاصصة، تغذى من غياب الدولة وسيطرة زعماء الطوائف ورؤسائها، لا عجب ان كان مرفأه شريعة غاب بلا حسيب أو رقيب.