IMLebanon

تنافس فرنسي – ألماني: على «سرقة» المرفأ

 

 

في الظاهر، تُصوّر الهجمة الألمانية والفرنسية على مرفأ بيروت كأنها سباق على مساعدة لبنان وتطوير مرافقه العامة وإعادة بناء ما هدمه انفجار 4 آب. لكن الواقع الفعلي يدور حول صراع أوروبي على الانقضاض على واحد من المرافق العامة المربحة وهو يرزح تحت الردم، لفرض صفقة بيع المرفأ أو خصخصته بواسطة الابتزاز وكشرط للمساعدة على إعادة بنائه. أخيراً، دخل رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري على الخطّ، ويعمل على استبعاد المشروع الألماني خدمة للمصالح الفرنسية

 

لم يعد واضحاً ما هو المطلب الأوروبي في ما خصّ لبنان. فمن جهة، ينفّذ الأوروبيون ضغطاً على السياسيين اللبنانيين مهددين بعقوبات على كل من يقف عائقاً أمام تأليف حكومة جديدة تقرّ الإصلاحات، لكنهم يتقاتلون في ما بينهم على الأرباح المحتمل جنيها من لبنان، قبل أن يُلملم أنقاضه. إذ يبدو أن جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لو دريان على مرفأ بيروت عقب الانفجار الذي وقع فيه، لم تكن لتفقد الأضرار حصراً، بل لإجراء مسح سريع وبصري لتحديد كيفية الاستفادة من هذا المرفأ أو بالأحرى السيطرة عليه. من هذا المنطلق، أعربت مجموعة CMA CGM التي تعنى بشحن الحاويات، بعد مرور شهر على انفجار 4 آب 2020، عن نيّتها إعادة بناء مرفأ بيروت. بطبيعة الحال، العرض لم يكن على شكل هبة أو مساعدة غير مشروطة. فالمجموعة الفرنسية التي يسوّق لها ماكرون، تطمح إلى خصخصة المرفأ أو أن تكون شريكاً للدولة اللبنانية في إدارته وتشغيله.

 

ربط المشاريع بالإصلاحات التي يُشترط على أي حكومة لبنانية جديدة اعتمادها، ليس سوى مجرد شعار برّاق يخفي وراءه نية الأوروبيين وضع اليد على المرافق العامة. فالخصخصة تقع على رأس «الإصلاحات» المطلوبة. وفي إطار التنافس الألماني الفرنسي، قام وفد من وزارة الأشغال الفرنسية بزيارة محافظ بيروت مروان عبود، أمس، للتباحث في وضع المرفأ. تباهى الفرنسيون، بأنهم خلافاً للألمان، لا يطمحون إلى تحضير مخطط مُعيّن وعرضه على الدولة اللبنانية، بل سيعمدون الى تنظيم مؤتمر في بيروت في أيلول المقبل، يدعون إليه نقابة المهندسين والجمعيات المختصة والقطاع الأهلي للبحث عن التصور الأنسب لترميم المرفأ وإدارته، وحتى يكون الطرح محلياً وغير «مفروض» من الخارج! قبيل ذلك، ومنذ ثلاثة أيام تحديداً، أعلن المدير العام لمجموعة CMA CGM في لبنان، جو دقاق، أن الخطة التي «عُرضت على السلطات اللبنانية للمرة الأولى في أيلول تتضمن إعادة بناء الأحواض والمخازن المدمرة، مع توسعة المرفأ وتحويله إلى النظام الرقمي بتكلفة إجمالية تراوح بين 400 و600 مليون دولار وفي غضون ثلاث سنوات». ولفت إلى أن الحكومة الفرنسية ليست جزءاً من هذه الخطة، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن شركات فرنسية ومؤسسات مالية أبدت اهتماماً بها، وأن الدولة اللبنانية سيكون لها دور في المشروع من خلال شراكة القطاعين الخاص والعام. وأشار الى أن ذلك سيتم في غضون 3 سنوات، فيما سبق للمجموعة نفسها أن أبلغت الفريق المكلف بشؤون النقل في القصر الجمهوري، على ما تقول المصادر، أن إدارتها للمرفأ ستكون ضمن مدة تراوح ما بين 25 و30 عاماً.

وفي معرض تعليقه على العرض الألماني، أكد المدير العام للمجموعة الفرنسية أنها تركّز أكثر على «التطوير العقاري الطويل المدى، لكن شركته مستعدة للإسهام بجزء من المرفأ في هذا المشروع إذا طلب منها ذلك». كلام دقاق جاء بعد يوم من المؤتمر الذي عقده كونسورتيوم الشركات الألمانية التي اقترحت مشروعاً يقضي باستملاك كامل مساحة المرفأ التي تضررت بالانفجار، وتحويلها إلى منطقة سكنية وسياحية خاصة، في مقابل توسيع محطة الحاويات شرقاً باتجاه نهر بيروت وبرج حمود.

 

الحريري يطلب إبعاد الألمان

العرض الفرنسي هو عبارة عن «لا عرض»، بل مجرد مسعى آخر لعقد طاولة مستديرة على طريقة ماكرون، لكن بصورة أكثر واقعية من الطرح الألماني. ثمة مجموعة تناقضات هنا إن كان بشأن كلام السفارة الألمانية أو ميناء هامبورغ للاستشارات، تشير الى مجرد تسرّع ألماني لحجز حصة في السباق الأوروبي «لنهش» ما تبقى من مرافق عامة مربحة في لبنان. في بداية الشهر الجاري، أصدر السفير الألماني في لبنان أندرياس كيندل، بياناً نفى فيه أن تكون الحكومة الألمانية معنية بالطرح الذي سيقدمه تحالف شركات ألمانية يضم «ميناء هامبورغ» الى «رولاند برغر» الى «كوليرز» و«HHLA». لكن في المقابل، كان السفير الألماني نفسه يترأس اجتماع ممثلي الشركات الألمانية مع رئيس الحكومة اللبنانية ووزير الأشغال ومحافظ بيروت والمدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت. كذلك قال أحد ممثلي الشركات خلال المؤتمر الذي عُقد في بيروت نهار الجمعة الماضي إن المشروع يحظى بدعم الحكومة الألمانية، كما كانت كلمة للسفير الألماني ذكّر فيها بمسارعة الألمان، حكومة وشعباً، الى مساعدة لبنان عقب الانفجار، وقد عمدت عدة شركات خاصة وجهات مانحة الى إرسال مساعدات. فيما قامت شركة «كومبي ليفت»، على ما يضيف، بمنع حدوث أضرار إضافية عبر رفع المواد الخطرة من المرفأ. فات السفير هنا أن «كومبي ليفت» لم تنفذ هذا العمل من منطلق إنساني أو خيري، بل «فرضت» عقداً سيدفع منه لبنان 2 مليون دولار مقابل تنفيذها مهمتها. ولأن الدولة عجزت عن فتح اعتماد لهذا الغرض، تُركت المواد الخطرة في المرفأ الى حين تأمين الأموال. من جهتها، سبق للشركات الألمانية أن تحدثت عن حصولها على موافقة من بنك الاستثمار الأوروبي على مشروعها، فيما صرّح متحدث باسم البنك الى وكالة «رويترز» بأنه «على علم بالاقتراح الذي قدمه ميناء هامبورغ وفريقه الاستشاري، لكن لا يوجد حالياً عرض تمويل من بنك الاستثمار الأوروبي». وقال إن أي تمويل «سيخضع للعناية الواجبة وسيتعين عليه اتباع إجراءات البنك المعتادة لمثل هذه العمليات وسيحتاج أيضاً إلى الامتثال لإرشادات الشراء الخاصة بمصرف الاستثمار الأوروبي والمعايير البيئية والاجتماعية».

 

تحالف الشركات الألمانية يطلب تملّك مساحات المرفأ المتضررة من الانفجار لإقامة «مدينة نموذجية» عليها

 

 

على مقلب آخر، تقول مصادر مطلعة إن الفريق الألماني عرض اقتراحه على رئيس الجمهورية ميشال عون العام الماضي، وعُقدت أول جلسة بين الفريق الألماني وفريق الرئيس في 15 كانون الأول، تلتها جلسة أخرى بعد 3 أسابيع. وبحسب المعلومات، فإن الزيارة الأخيرة (الشهر الجاري) كانت محددة في شهر شباط، ولكن تم تأجيلها بفعل إجراءات الإقفال المرتبطة بجائحة كورونا. لكن اللافت أن الألمان نظّموا الزيارة الأخيرة، من دون التنسيق مجدداً مع القصر الجمهوري، واستثنوا الرئيس من زياراتهم.

عرّاب المشروع الألماني والمسهّل الرئيسي لحركة الشركات الألمانية في لبنان، هو السفير اللبناني في برلين مصطفى أديب. الأخير، بعد ساعات على تكليفه تأليف الحكومة، صيف العام الماضي، زار مرفأ بيروت لاستطلاع وضعه، ورفع بعد مدة تقريراً الى الدولة الألمانية بشأن حالة الميناء. وقد بدأ مذذاك الإعداد لمشروع تطوير المرفأ والمناطق المحيطة به. لاحقاً، قام وفد ألماني بجولة استطلاعية في المرفأ ومحيطه. وتم التركيز على المساحات التي تصنف كأملاك عمومية يمكن الاستفادة منها خدمة للمشروع وبغرض «تخفيف الحاويات عن المرفأ ونقلها الى أماكن أخرى كنهر بيروت مثلاً، لتحرير الأراضي التي تشغلها. وهكذا يصبح ممكناً استخدام الفسحة لبناء المدينة السياحية». وما يثير الاستغراب أن الشركات الألمانية تحدثت عن «معايير أوروبية» لمشروعها، فيما وضعت في مخططها ناطحتَي سحاب ومجموعة من الشاليهات الخاصة وبرك السباحة التي يصعب العثور على مثيل لها في مساحات عامة في أي دولة أوروبية.

«الهجمة» الألمانية أزعجت رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري. وعلمت «الأخبار» أن الحريري اتصل بالسفير أديب، طالباً منه عدم المضيّ قدماً بالطرح الألماني وفرملته، لأنه (أي الحريري) «ميّال أكثر إلى الفرنسيين»، ولأن ثمة مصلحة سياسية تربط لبنان بباريس.

 

بيع المرفأ بحجة أنه مدمّر

وبعيداً عن رغبات الحريري ومصالحه، الطرح الألماني لا يزال فضفاضاً. ففي اجتماع السرايا، سمع الحاضرون رغبة ألمانية بتملّك جزء من أراضي الدولة حيث يفترض أن تنشأ «مدينة نموذجية». وذلك لا يختلف عن بيع أصول الدولة، إذ ما سيحصل في حالة مماثلة هو إسقاط ملك الدولة من ملك عام الى ملك خاص، ثم تسجيله باسم الشركة المتعهدة على مدى 99 عاماً! هذا الأمر، بحسب مصادر حكومية، لا يحتاج الى قانون أو يدخل ضمن إطار الخصخصة، بل يتم بالتنسيق مع وزارة المالية عبر عقد يبرمه الطرفان. أما في الاجتماع مع محافظ بيروت ووزارة الأشغال، فقد بدا الألمان في حالة ضياع وغير مطّلعين على الإطار القانوني الذي يريدون اعتماده. فضلاً عن أن الشركات المُعدّة للمشروع هي شركات استشارية، وهي تسعى إلى استقطاب عروض تنفيذية لمشروعها لكنها لم تضع بعد الآليات المحددة له. يجري كل ذلك، في ظل غياب أي استراتيجية وطنية للمرافئ، وهي مهمة منوطة بوزارة الأشغال اللبنانية، إذ قبل خصخصة المرفأ أو بيعه، يفترض أن يكون ثمة رؤية لبنانية واضحة حول وظيفة وإدارة ميناء بيروت وباقي الموانئ. فتحت حجة الدمار، ثمة من يهرع لوضع لبنان تحت أمر واقع عبر ربط إعادة إعمار المرفأ بخصخصته، وفرض الشروط المجحفة بحق لبنان، بذريعة أن ما سيُباع هو أنقاض لا أكثر، فيما في الواقع، الجزء الأكبر من أعمال الاستيراد والتصدير مستمرّة عبر محطة الحاويات التي لم يلحق بها ضرر يُذكر جراء الانفجار.

 

مستشار عون: التحالف الألماني يريد «سوليدير» جديدة

الوفد الذي ضمّ تحالف الشركات الألمانية، جال، قبل نحو أسبوع، برفقة السفير الألماني في بيروت على المسؤولين الرسميين. إلا أنه استثنى من جدول زياراته القصر الجمهوري، رغم أن الفريق المكلف من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون بهذا الملف كان أول من تواصل ونسّق مع الألمان. ويقول مستشار الرئيس لشؤون النقل والمرافئ رومل صابر: «تفاجأنا بزيارتهم لبنان من دون إعلامنا للمشاركة بأيّ من الاجتماعات التي حصلت، علماً أنهم قد بدأوا بمراسلتنا كفريق الرئيس التقني الاستشاري منذ شهر كانون الأوّل 2020. وقد عقدنا أكثر من اجتماع عن بُعد، مع إبلاغهم أننا مستعدّون للقائهم في بيروت، بَعد أن أبدوا رغبتهم في زيارة لبنان لاستكمال المحادثات، في بداية الربيع».

صابر وفريقه كانوا قد أرسلوا أسئلة إلى معدّي المشروع لتوضيح إمكان فصل مرحلة إعادة بناء المرفأ عن مرحلة إنشاء المدينة النموذجية، لكن «الواضح أنهم مهتمّون بمشروع يشبه سوليدير أكثر من اهتمامهم بالمرفأ بحدّ ذاته، ما يضع علامة استفهام حول نيّتهم ونيّة وكيلهم اللبناني المجهول الهويّة في العلن حتى الساعة». فالوفد الألماني «ليس كاريتاس لكنه مجموعة شركات خاصة تسعى لاستثمار تجاري بحت. الأهم بالنسبة لنا هو عدم المسّ بمقدرات الدولة المتبقية من عقارات وغيرها».

يؤكد صابر أن وزير الأشغال ميشال نجار كان «في صورة ما نعمل عليه، تواصلنا واجتمعنا أكثر من مرة حول هذا الملف، ولكنه لم يبلّغنا عن موعد اجتماعه بالوفد الألماني ولا بنتائج هذا الاجتماع».

من جهة أخرى، يشير صابر إلى أن الفرنسيين وجهوا رسالة أولية إلى رئيس الجمهورية عبر شركة CMA CGM أبدوا فيها رغبتهم بإعادة إعمار المرفأ وتشغيل محطة الحاويات: «اجتمعنا بهم مرة على أن تُستكمل المحادثات. كما أبدت كل من هولندا وروسيا رغبتهما بالمشاركة في إعادة إعمار المرفأ وتطويره، ولن تفاجئني أيضاً رغبة الصين والولايات المتحدة الأميركية بالمثل، لكن لم نسمع من أيٍّ من هذه الدول أو نرَ أيَّ عرض تقنيّ حتى الساعة».

في غضون ذلك يعمل التيار الوطني الحر، وفقاً لصابر، على طرح ثلاثة مشاريع قوانين ومراسيم تتعلق بثلاثة محاور:

1- إنشاء مؤسسة عامة لتملّك العقارات كافة التي تقع ضمن حرم المرفأ، لحماية أصول الدولة وعدم السماح لأي جهة ببيعها أو رهنها أو استثمارها أو التحايل على القانون كتأجيرها لمدة 100 عام، وهو ما يوازي بيعها.

2- إنشاء هيئة وطنية لتنظيم عمل المرافئ كافة.

3- إنشاء شركة مساهمة تمتلكها الدولة اللبنانية بالكامل تُعنى بإدارة وتشغيل المرفأ، على أن يُتاح بعض أسهمها للقطاع الخاص المختص في المستقبل لناحية الاستفادة من خبرات عالمية لتطوير وتحسين مرفأ بيروت، من دون المسّ بأيّ من أصول وممتلكات الدولة.