يعتقد متابعون لجلسات الحوار بين «كتلة المستقبل» و «حزب الله» في لبنان، أن مجرد استمرار الحوار بين الفريقين في الظروف الراهنة أهم من التوصل إلى مواقف حاسمة تجاه القضايا الرئيسية التي تواجه البلد. فكما أن لاستمرار الحوار دلالاته الرمزية الإيجابية بين اللبنانيين، فإن لانقطاع، أو حتى تعليق الحوار نتائجه السلبية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية. ويبدو أن القائمين على الحوار يأخذون بهذا الرأي، إذ إنهم يفضلون استبعاد القضايا «الحساسة» عن أجندة الحوار ضماناً لاستمراره. الأفضل في هذا الحال بناء الثقة بين الطرفين حتى إذا تم ذلك وتحسنت الأجواء بين المتحاورين يمكن عندها التطرق إلى القضايا الصعبة، مثل قرار الحرب والسلم في لبنان وسلاح المقاومة وعلاقات لبنان الإقليمية والموقف من الصراع في سورية والجماعات التكفيرية.
بين هذا وذاك، يتمنى المرء أن يستمر الحوار وأن يتطرق في الوقت نفسه إلى هذه القضايا الجدية، فهذه القضايا ليست جديدة وإنما مطروحة على البحث والنقاش منذ سنوات، وإذا كان تأجيل بحثها بعض الوقت يفسح المجال أمام ترطيب العلاقات بين الفريقين المتحاورين، فإن هذا لا يمنع أن تعود العلاقات إلى التدهور إذا طرحت لاحقاً. وأخذاً بعين الاعتبار هذا الاحتمال، فإنه قد يتحول إلى حافز لاستبعاد هذه القضايا بصورة دائمة من أجندة الحوار. ومما يزيد في هذه المخاوف هو أن تجنب الخوض فيها بين المتحاورين لا يعني تجميد الجدل الساخن والمحتقن حولها على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمنابر الخطابية وصولاً إلى المتاريس أحياناً، وهو ما قد يطيح بالحوار وبالأجواء الإيجابية المحيطة به.
إن عقد الجلسات الحوارية المغلقة قد يساهم في خلق الظروف المناسبة لمثل هذا النقاش. ولكن الأهم من ذلك هو بلورة الإشكاليات والأسئلة التي تتطرق إليها أجندة الحوار، فهناك فرق كبير بين صياغة الإشكاليات في أجواء تناحرية وتعجيزية، وبين صياغتها في مناخات حوارية. في هذا السياق، فإنه يجدر بالمتحاورين قبل أن يبدأوا تحليل المواقف تجاه ذلك البلد العربي أو الشرق أوسطي، أن ينطلقوا من تظهير صورة الدولة اللبنانية المرتجاة والدور المأمول لها في خدمة لبنان والمنطقة العربية والمجتمع الدولي، بما في ذلك تقييم أهمية الدولة في التعامل مع التحديات الماثلة أمام لبنان. وإذا اقتنعوا بجدوى هذه المقاربة، فلعلّ من المفيد أن يأخذوا بعين الاعتبار، في معرض إجابتهم على الأسئلة المتعلقة بها، نظرة فريق من الإسرائيليين المؤثرين إلى هذه المسألة.
يتكون هذا الفريق من عسكريين وسياسيين إسرائيليين يؤيدون تطبيق قاعدة الهجمات «اللاتناسبية»، أي التي تفوق الأضرارُ التي تسببها بين العرب أضعافاً مضاعفة الأضرار التي تسببها الهجمات ضد الإسرائيليين. من هذا الفريق من الإسرائيليين الجنرال جيورا آيلاند، الذي أسند اليه آرييل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيلية، في مطلع عام 2004، منصب رئيس المجلس الأمن القومي، وعقب الحرب الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006، توصل آيلاند، الذي كانت له خبرة واسعة في الشؤون اللبنانية، إلى أن الحرب لم تحقق أهدافها لأن إسرائيل كانت تحارب «حزب الله» بدلاً من أن تركز على محاربة الدولة اللبنانية. وعلل آيلاند هذا الرأي بأن الدولة اللبنانية هي التي تؤمن لـ «حزب الله» أفضل غطاء لكي يمارس دوره العسكري والسياسي، فهي مدعومة من قبل الغرب وهذا الدعم يدفع بعض الدول الغربية إلى التدخل لحماية لبنان، واستطراداً «حزب الله» وقواعده الشعبية، من الضربات الإسرائيلية الساحقة إذا قررت الحكومة الإسرائيلية القيام بمثل هذه الضربات.
وكمثل على هذه الحماية التي تبسطها دول الغرب على لبنان، واستطراداً على المقاومة، يشار إلى واقعة القرار الذي أصدره دان حالوتس، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي خلال حرب 2006، عندما أمر بتدمير 10 بنايات ذات طوابق متعددة في بيروت مقابل كل صاروخ يطلقه اللبنانيون على حيفا. ولكن هذا الأمر سحب من التداول نتيجة ضغط غربي على الحكومة الإسرائيلية كان تحسباً من ردود فعل عربية ودولية، رسمية أو غير رسمية، تؤثر سلباً على مصالح الغرب في المنطقة العربية.
إن الدولة اللبنانية لا تؤمن للمقاومة مشروعية دولية فحسب، وإنما تساعد، في رأي ذلك الفريق المتشدد والنافذ من الإسرائيليين، على توفير مشروعية سياسية داخلية للمقاومة وتضطلع بدور مهم أيضاً في تأمين مستوى معقول من التضامن الأهلي مع المقاومة ومناصريها، خصوصاً في الساعات الحاسمة، مثل حرب 2006. وبالنظر إلى أهمية الدور الذي تضطلع به الدولة اللبنانية ضد إسرائيل، فقد اقترح آيلاند وغيره من المنتمين إلى هذه المدرسة، العمل مستقبلاً على تدمير الجيش اللبناني والبنى التحتية اللبنانية في أي حرب أو معركة كبرى إسرائيلية مع لبنان.
إن نجاح إسرائيل في تنفيذ هذا الهدف سوف يكون خسارة كبرى للمقاومة. في المقابل، يخدم تعزيز الدولة وتمكينها وتقوية الجيش اللبناني، كلَّ فريق لبناني يناهض التوسعية الإسرائيلية. بهذا المعيار، فإن النهوض بالدولة اللبنانية ينسجم مع أهداف المقاومة المعلنة ومع مسوّغ وجودها أصلاً. وقادة المقاومة لا ينفكون يؤكدون دعمهم الدولة ومساندتهم إياها، فإلى أي مدى تذهب المقاومة في الالتزام بهذه السياسة؟
هذا السؤال/ الإشكالية يُطرح أيضاً على «كتلة المستقبل» حول مدى دعمها الدولة ونظرتها إلى مسألة تمكينها وتعزيز قدراتها وطاقاتها. الجواب بديهي. سوف يقول «المستقبليون» ومعهم تيار 14 آذار: ألا تدعم الكتلة والتيار بقوة إعادة خيار الحرب والسلم إلى الدولة اللبنانية؟ ألا تطالب الكتلة والتيار بسحب السلاح من الحلبات السياسية ومن الشارع؟ ألا ترفضان حكم موازين القوى الإقليمية وتطالبان بحكم القانون والدستور والمؤسسات الشرعية؟ بلى، هذا ما تردده الكتلة والتيار. ولكن هل تؤدي تلبية هذه المطالب بصورة حصرية إلى تمكين الدولة اللبنانية؟ هل تكون الدولة في وضع يسمح لها باتخاذ قرار لبناني وسيادي في قضية الحرب والسلم؟
إن دعم الدولة اللبنانية يعني تمكينها على كل صعيد. وفي الظروف الإقليمية واللبنانية الراهنة،تحتل مسألة تمكين الدولة على الصعيد الدفاعي والأمني مرتبة رئيسية في الاهتمام. وتقدم خبرات الشعوب تجارب ثمينة في مجال الدفاع الوطني، ولو راجعنا هذه التجارب سوف نجد أن الشعوب والدول التي سعت إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتمتين الرابطة الوطنية بين أبنائها تعمد إلى تطبيق خدمة العلم، فخلال الحرب العالمية الثانية، وعندما رجحت كفة الحلفاء على كفة المحور، وأطلقت يد ستالين في أوروبا الشرقية، حاولت دول البلطيق الثلاث (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا) وفنلندا الحفاظ على استقلالها، وففشلت الدول الثلاث في تحقيق هذا الهدف، بينما نجحت فنلندا، فما هي العوامل التي ساعدت الفنلنديين على الحفاظ على استقلالهم وعلى نظامهم الديموقراطي بعكس دول البلطيق؟
يعزو البعض السبب إلى أن فنلندا كانت قد طبقت نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، وهكذا حققت شيئاً من التناسب في القدرات العسكرية مع العملاق الروسي. وهذا السبب لم يساعد الفنلنديين على مقاومة جيوش ستالين الجرارة فحسب، وإنما ساعدهم أيضاً على إخراج قوات ألمانية كانت قد احتلت بعض أجزاء من بلادهم. إذا كانت فنلندا قد استطاعت، وهي البلد الصغير الذي كان عدد سكانه لا يزيد على الأربعة ملايين نسمة، الدفاع عن استقلالها في وجه روسيا وألمانيا، ألا تستطيع الدولة اللبنانية ذلك إذا طبقت خدمة العلم، في إطار استراتيجية الدفاع الوطني الشامل، بحيث يكون لكل لبناني دوره في حماية الاستقلال والمصالح والآمال الوطنية، وأن تقاوم إسرائيل، التي لا تزيد طاقاتها البشرية والطبيعية كثيراً عن طاقات لبنان؟ وإذا قدّر لفنلندا أن تقنع روسيا الستالينية باحترام النظام الديموقراطي في هلسنكي، ألا تستطيع الدولة اللبنانية التي تستند إلى طاقات شعبها وتضامنه أن تقنع الأشقاء والأصدقاء باحترام النظام الديموقراطي في لبنان؟ إن ما يعيب التجربة الفنلندية، في نظر البعض، هو أن فنلندا لم تتمكن من حماية سيادتها الكاملة، إذ كان عليها أن تراعي روسيا في سياستها الخارجية. أما لبنان فليس له أن يراعي إسرائيل في أي شأن، ولا أن يقدم لها أي تنازل. إن لبنان قد يجد ما يسترشد به في التجربة الفنلندية، أما إسرائيل فإنها ليست في قوة روسيا السوفياتية لكي تتوقع من الآخرين تقديم التنازلات إليها.