القصة الكاملة لأزمات السلطة والحكم
ومراجع تؤكد السلامة العامة للأجيال المقبلة
ألقى خطابه التاريخي ومضى الجميع هتفوا في يوم الحزن الكبير انه الرجل التاريخي الذي لا يتغيّر. وهكذا يكون صوت التاريخ عبر الأجيال.
هل يعقل أن تغيّر الرئاسة الأولى الرجل الأول في قناعاته والأفكار والأساليب. هو قال كلمته، وسار بين القادة الكبار.
بعد قرابة عام، ظهرت النكبة بكل فصولها، وظلّ الجنرال واقفا بين أفذاذ في التاريخ حديثه وقديمه. ميشال عون وهو عماد الجمهورية، ورائد الحقيقة التي لا تتبدّل كلماتها ولا المعاني. وهو لم يطالب في خطاب الوداع الأخير بجلاء الحقيقة، فقط بل بالتحقيق في ظروف استمرت أشهرا وأياما، بل بتحقيق عادل وشفّاف، في ظروف وقوع عشرة عسكريين لبنانيين في يد عصابة داعش أو أختها النصرة لكشف الحقيقة للناس.
كان المفكر العالمي جون رايد قبل نصف قرن يخوض غمار معاناة مماثلة، لدى تبدّل الاتحاد الروسي الى الاتحاد السوفياتي، يقول للعالم كله، ان هذا الاتحاد قد يزول، ويغيب، كما يزول ويغيب الاتحاد الروسي، لكن الحقيقة الباقية الى الأبد، هي ان العالم قد يتطور ويتبدّل، لكن البقاء هو لله، وللتاريخ.
والعماد عون عندما دعا الى كشف الحقائق وتعهد باعلان الوقائع، لم يكن يقصد انه ساع الى تسمية المقصّرين ولا الى محاسبة المتورطين في جريمة قتل أو ذبح العسكريين العشرة، ولا الى محاسبة رئيس الوزراء تمام سلام والوزراء في عهده، ولا الى الطلاق، بينه وبين شريكه في الحكم سعد الحريري، بل أراد القول علنا لا سرّا، ان التحقيق واحد، ولو على مسافة ثلاث سنوات أو أكثر أو أقل لتحديد من هو المذنب، ومن هو القاتل، ومن هو البريء ومن هو رائد الحقيقة في عالم تموت فيه الحقائق، على مرأى من الناس جميعا، تلك هي القصة الغامضة الصامتة وراء تجهيل أو جهل الواقع الذي حال دون انقاذ العسكريين اللبنانيين قبل ثلاث سنوات، والى كشف وجود جثثهم كما خبّأهم جماعة داعش وأهل النصرة.
القصة معقدة وطويلة، والحقيقة لا تظهر بسهولة، لأنها مغموسة بالدماء ومكتوبة في دياجير الظلام، وغياهب الفتنة.
كان الفيلسوف ألبير كامو عند عودته من الجزائر الى فرنسا قبل أكثر من نصف قرن يقول ان كشف الوقائع عملية صعبة، وليس التاريخ وحده، هو من يقولها للناس، بل ان مجموعة أعوام ستعلن تباعا قبل الاهتداء الى معالمها الغامضة.
ولهذه الأسباب تمهّل رئيس الجمهورية في قول الحقيقة، لأنه لا يريد أن يوجّه الاتهام الى أحد، من دون أن يكون في يديه ممسك واحد يقود الى المعرفة الضائعة في قلب التاريخ. وهذا ما جعل الجنرال ديغول يقول للفرنسيين ان الجزائر عربية وليست فرنسية، في نهاية حقبة الخمسينات.
طبعا، كان الجنرال ديغول يدرك، بعد عودته الثانية الى السلطة، ان فرنسا قد تخذله ولا تسلس له قيادة جماهيرها، لأن الجمهور يتغيّر، فاستدعى رئيس وزرائه جورج بومبيدو وطلب منه الاستقالة من رئاسة الحكومة الفرنسية.
استاء بومبيدو من طلب أستاذه في السياسة، لكنه كظم غيظه، إلاّ أن الجنرال ديغول أوفد من يقول لصديقه العزيز أن عليه أن يستعد لتسلم السلطة مكانه في العام ١٩٦٨، لأنه يطلب من الفرنسيين اعطاءه تفويضا كبيرا في السلطة، وإلاّ فإنه سيلجأ الى الاعتذار عن الاستمرار في قيادة الأمة الفرنسية.
وهكذا فعل عندما أعطته الأمة الفرنسية أقل من سبعين في المائة في الاستفتاء، فقدّم استقالته وعاد الى قريته القريبة من باريس، وصعد بومبيدو الى قصر الأليزيه. بعدما محضته الأكثرية النيابية الديغولية الثقة به ترشيحا للرئاسة وتفويضا للحكم والسلطة.
وهذا ما فعله الرئيس اللبناني فؤاد شهاب، عندما اختار العزوف عن الحكم، وأعطى دوره للرئيس شارل حلو في العام ١٩٦٩، وللرئيس الياس سركيس في العام ١٩٧٠.
يومئذ زاره اللواء أحمد الحاج موفدا من الرئيس سليمان فرنجيه، وعرض عليه تأييده للرئاسة باسم تكتل الوسط الذي كان يضم الرؤساء، كامل الأسعد وصائب سلام الى جانب الرئيس فرنجيه.
إلاّ أن فؤاد شهاب قال لأحد أبرز معاونيه: اذهب الى إبن فرنجيه، وأخبره بأنني أريد إبن سركيس مكاني لا سواه. ورد مرشح تكتل الوسط بأن شهاب يريدها معركة… فلتكن، ويومئذ فاز الرئيس فرنجيه بالرئاسة الأولى بأكثرية صوت واحد… أو نصف صوت! ٥٠ – ٤٩.
في الأسبوع الفائت قيل للرئيس العماد ميشال عون ان الرئيس أمين الجميّل طلب موعدا لمقابلته، فاستقبله في اليوم التالي، وأبلغه هذا الأخير بأنه يقف في صفّ الدولة ضدّ الذين يقاومون الدولة.
طبعا، كان لموقف الرئيس عون تقدير كبير عند سلفه في موقع الرئاسة الأولى، خصوصا وان الرئيس الجميّل لم يكن يستسيغ العماد عون عندما كان قائدا للجيش في عهده، وان تولى هو تعيينه رئيسا للحكومة التي ضمّت أعضاء المجلس العسكري في الليلة الأخيرة له في قصر بعبدا. اعتقادا منه ان الانقسام سيحلّ بين الوزراء المسيحيين الثلاثة ميشال عون، عصام أبو جمزة، وادغار معلوف والوزراء المسلمين الثلاثة الآخرين.
السرّ الذي ذاع
يروي الرئيس أمين الجميّل انه تولى السلطة الرئاسية، بعد اغتيال شقيقه الرئيس بشير الجميّل، وان اختياره للرئيس حسين الحسيني لرئاسة مجلس النواب مكان الرئيس كامل الأسعد هو الذي جعل جناح الموالاة يتصدّع بعد وحدة عارمة وقوية.
ويقول النائب والوزير السابق ادمون رزق انه هو الذي رشح الشيخ أمين الجميّل باسم حزب الكتائب مكان شقيقه الراحل الشيخ بشير الجميّل، لكنه فوجئ بأن رئيس الجمهورية الجديد، بادر الى ترشيح الرئيس حسين الحسيني لرئاسة المجلس مكان الرئيس كامل الأسعد، الذي وبإصرار منه وعناد سياسي مارسه بشجاعة أوصل مرشحين من حزب الكتائب الى رئاسة الجمهورية.
إلاّ أن الرئيس الجميّل اختار حكومته الأولى ممن أسماهم بربارة فعاليات.
ويفاخر الرئيس الجميّل بأنه أرسل وزراءه الى معظم البلاد العربية، وان موفده الى تونس، تصدّى في قمة فاس للسيد ياسر عرفات، عندما هاجم السلطة اللبنانية متّهما إياها بعدم الوفاء للمقاومة الفلسطينية، وان وزيره وقف في القمة نفسها، وقال للملوك والأمراء العرب، ان ياسر عرفات نفسه الممسك بتلابيب السلطة، هو الذي يمارس ضغوطا سياسية على قادة الأحزاب اليسارية والاسلامية، للوقوف معه ضد السلطة اللبنانية التي وقفت لتدافع بجرأة عن سيادة الدولة اللبنانية.
هكذا، كانت السياسة تمارس في لبنان قبل أكثر من نصف قرن، وبعدها تفجّر الصراع بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
ممارسات وتصرفات
عكف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، على تعداد ما حققه لبنان، في الحقبة الأخيرة، من انجازات في ميدان السيادة، ولا سيما بعد أعياد شملت قوى الأمن الداخلي، وقوى الأمن العام، والدفاع الوطني، وقال لمن كان حوله ان القادة المذكورين أعطوا البلاد ما ينبغي اعطاؤه من جهد واخلاص ورعاية لمبادئ الحق والحقيقة، في سبيل وطن يستحق الانجازات والنجاحات.
صحيح، ان العسكريين دفعوا ضريبة الدم أمام مذابح داعش لكن ضريبة الوفاء للوطن كانت الأقوى في معارك ضاربة. ذلك ان مذابح داعش استطاعت ان تذبح الجنود الأبطال، لكن الصمود كان أقوى من كل شيء، وأكثر فعالية، حيث لا فعالية في موازاة الصمود الصعب والمواجهة الشرسة لما فعله القتلة في صفوف داعش، وسابقا في ربوع النصرة.
وقبل ظهور نتائج الفحوص الطبية وبعدها، استطاع العسكريون الأبطال، أن يكتبوا بدمائهم، فصول الحرية والكرامة والمجد للشعب اللبناني، الذهبية الأخيرة.
كان اختطاف العسكريين الضريبة الأغلى التي دفعها الجنود، لكن ملحمة الصمود العسكري كانت الأقوى ارادة وصمودا في وجه أعداء النظام.
حدث ذلك في ظلّ الفوضى السياسية والتجاوز على المؤسسات الدستورية وإلصاق تهمة الارهاب بالجملة على الناس، ثم جرت تراجعات، ترافقت مع نزعات يسارية حاولت تقسيم الجيش، وتحميل الارهاب مسؤولية انقطاع الماء والكهرباء، الى تلويث البيئة وغيرها من التهم المنافسة للموضوعية السياسية غالبا.
ويقول مرجع يساري ان معركة الجرود لن تكون موضوعية، من دون مراعاة النظرة الموضوعية للمشكلة الاجتماعية الناجمة عن معضلات تشكّل كابحا للوجود السياسي. لقد أقرّ مجلس النواب في جلسته المنعقدة أخيرا، وخصوصا في شهر تموز الفائت سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام، وللأجراء والمتعاقدين في الادارات الرسمية والمؤسسات العامة والخاصة.
كان أحد قادة اليسار يرى في السلسلة تعديلا في قيمة الدرجة، إلاّ ان تلك السلسلة وضع لها سقف مالي لا يتجاوز ١٢٠٠ مليار، مع فرق ناجم عن تعديل، إلاّ أن أهل السلطة يستسهلون فرض الضرائب على الفقراء وذوي الدخل المحدود، ويغضّون الطرف عن سرقة المال العام، ولا يرغبون المسّ بأرباح المؤسسات المالية والعقارية، ولا يفرضون تسويات على مصادري الأملاك البحرية، ولا يقفلون مزاريب الفساد والهدر التي تذهب أرباحها لمن يتقاسمها من عتاة الرأسمالية المتوحشة، وأمراء المحاصصة الطائفية مثلا، مثل التغاضي عن حجم التهرّب من الجمارك التي يصل الى حدود الملياري دولار سنويا، وهو مبلغ كافٍ لتغطية أكلاف السلسلة واعطاء الحقوق المتوجبة من دون التأسف على زيادة الضرائب على القيمة المضافة.
أما البند الثاني، والذي ورد تحت عنوان أحكام عامة، فشمل منع حالات التوظيف في القطاع العام وتعديل دوام التوظيف والتعاقد، وتعديل دوام الموظفين، وزيادته الى ٣٥ ساعة أسبوعيا، وتحديد لسقف المستوى التعليمي، مما يعتبر سيفا مسلطا على حملة التعليم الجامعي وموظفي الدولة وفي صناديق التعاضد وسائر الأسلاك العسكرية، وهو الذي استنفر القضاة لأنه ينال من استقلاليتهم.
ويقول كاتب يساري آخر، ان إقرار السلسلة يعتبر الانجاز الأهم، وان غير مكتمل وغير منصف.
وفي عودة الى الجذور، فان ما طرأ على الأفكار بعد التوافق بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية يخلق مناخات متضاربة أحيانا، ويطرح أفكارا تضيع بين المغالاة والموضوعية.
ويقول أركان في التيار الوطني الحر، كما يعبّر عن أسرارها وزير الخارجية جبران باسيل، انها أساسية ويطرح في موازاتها وزراء القوات اللبنانية ولا سيما نائب رئيس الحكومة وزير الصحة، تعابير تبدو أحيانا متضاربة في المعنى، ومتوازنة في التفسير، وسط إصرار من الفئتين على سريان الموضوعية في التفسير حينا والتوجيهات أحيانا، نحو خلافات لا تخلو من الارتدادات السياسية في معظم الأحيان.
وهذا، ما يجعل الحوار بين القوات وتيار المردة مشوبا بتناقضات لا تخلو من العقبات السياسية.
صحيح، ان المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم كسب المعركة، وفصل قضية المطرانين اليازجي وابراهيم، إلاّ أنه قال للجميع ان صاحبي السيادة ليسا عند داعش لكنه لم يقل لأحد ان المتروبوليت الأرثوذوكسي والمطران الكاثوليكي حيّان يرزقان. وأشار الى انه على مدى ثلاث سنوات، كانت الأمور صعبة ومعقّدة جدا، وانه في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وبعد اختطاف العسكريين كان هناك مجال للتفاوض، وقد أرسلت داعش وسيلة للتفاوض، لكن الوسيط اختفى فجأة.
وكشف انه بدا بالتلميح ان أهالي العسكريين تلقوا معلومات تشير الى ان المخطط هو أقرب الى الاستشهاد من الحياة.
وقال: ليست كل نهاية تكون سعيدة. وقد ذهبت ذات مرة لابلاغ الأهالي بمصير أبنائهم، لكنهم كانوا جاهزين لتقبّل فكرة الحياة، قبل فكرة الاستشهاد، وتلك هي حصيلة المواطن الذي يعيش في رحاب اليأس.
مع بقاء خطر داعش والنصرة وخلاياهما النائمة في أكثر من منطقة لبنان. لقد قاد تحرير الجنوب الى قضم السلطة بالتدرّج، بدل ان يقود الى بناء الدولة، كما أن تحرير الجرود، يضع البلاد أمام تحديات مصيرية. أما ان يؤدي الى ضمان السيادة والإمساك بكل حدود لبنان، وإما ان يصبح خطوة إضافية في فتح خارطة المنطقة وصراع المحاور فوقها.
ومن الصعب، مهما يكن النصر مهماً ان تختفي الاسئلة في ظل الفرج والإعتداد بالقوة. وأبرز الاسئلة التي يطرحها كثيرون اثنان، لماذا بعدما كان النصر الكامل في المعارك التي في اليد، جرى نقل مجرمي النصرة يتقدمهم أبو مالك التلّة وجرحى داعش الى أماكن أخرى في سوريا من دون محاكمة على الجرائم التي ارتكبوها، او الإجهاز عليهم، ولماذا لم تدقّ ساعة المعركة قبل آب ٢٠١٤، أو بعد الهجوم الإرهابي وخطف العسكريين.
وفي رأي رفيق خوري ان المحاسبة واجب، وأن المساءلة واجب لكن الخلط بين المحاسبة والمساءلة لمعرفة الحقائق وتعلّم الدروس، وتوقيع المخطئ ثمن أخطائه وبين تصفية الحسابات هو وصفة عملية لتحويل النصر العسكري الى هزيمة سياسية.
ويقول آخرون ان المعركة تأخرت بالفعل، وإن الأسباب المحلية التي تراوح بين حسابات القرار على المستوى السياسي، ومتطلبات القرار على المستوى العسكري ليست سوى جانب من الصورة وقد يكون هامشياً، في حين ان الجانب الأساس هو حسابات اللعب الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة، إذ دقّت ساعة المعركة في الجرود، على توقيت التطورات في حرب سوريا وحرب العراق، والتركيز الروسي والأميركي على محاربة داعش كأولوية مطلعة، والوقائع أكدت ما كان على الورق، في الأجندات، ليس من السهل وإن كان من الضروري تحييد لبنان عن صراعات المنطقة.