تكثر هذه الأيام مظاهر الشكوى والتذمر من كل شيء تقريباً، ففي السياسة تكثر المناكفات والتحديات والصراعات، وفي الدولة تفوح رائحة الفساد وتكثر الفضائح والصفقات، وفي الاقتصاد يتراجع النمو والإنتاج وتضعف الإمكانات وفرص العمل ويزداد الدين العام والتضخم، وفي المجتمع ينتشر الفقر ويتوسع، وتتراجع التقديمات على أنواعها.
باختصار فإن المواطن اللبناني لا يتوافر له الأمن الاقتصادي والاجتماعي ويحق له ان يتذمر من واقعه ويتأفف وينشد الأفضل، وان يكون مضطرباً وقلقاً على وضعه ومستقبله…
لكن ثمة جانب آخر ايجابي للصورة في المشهد اللبناني، تبعث على الامل وتعزز الثقة بلبنان، هذا الوطن الصغير بحجمه ومساحته والكبير بدوره ورسالته وعلاقاته الدولية وثروته البشرية، فرغم كل الصعوبات والأزمات التي تضيّق الخناق على الوطن وابنائه، ورغم كل التحديات والمخاطر التي تطوّق البلد من كل الجهات، وكل العواصف التي تهب من كل صوب ورغم كل الخيبات والصدمات يبقى ان هناك مساحة واسعة للتفاؤل والتطلع الى مستقبل أفضل.
من الأمور الإيجابية التي استوقفتني في الفترة الأخيرة وجعلتني أكثر ثقة بقدرة لبنان على البقاء والصمود، ثلاث أمور وهي:
1- الدعم الدولي
– اولاً: الدعم الدولي غير المسبوق الذي يصل الى حد احتضان لبنان وحمايته ودرء الاخطار الخارجية عنه وتحييده وابعاده عن الحرائق الإقليمية، فالمجتمع الدولي ملتزم بحفظ وترسيخ الاستقرار العام في لبنان وان يستمر هذا الاستقرار رغم كل الاضطرابات والحروب التي تحصل في المنطقة.
والالتزام الدولي في استقرار لبنان ليس كلاماً ولا وعوداً فارغة وانما يترجم في أفعال وخطوات ومبادرات ويتأكد كل مرة واجه فيها لبنان ازمة وخطراً وتهديداً، وكانت آخر المرات عندما وقعت ازمة استقالة الرئيس سعد الحريري وسادتها ملابسات وكادت ان تتطور الى ازمة مفتوحة وكبيرة… وكذلك ليس قليلاً ان نشهد في خلال فترة أشهر وجيزة مطلع هذا العام انعقاد ثلاث مؤتمرات دولية على الأرض الأوروبية خاصة بلبنان وتهدف الى دعمه في كل المجالات، بدءاً من مؤتمر روما الخاص بدعم الجيش والمؤسسات العسكرية والامنية، مروراً بمؤتمر باريس الخاص بدعم وتوفير الفرص الاستثمارية ورفع مستوى الخدمات والمرافق والبنى التحتية، وصولاً الى مؤتمر بروكسل الخاص بإيجاد المعالجات الناجحة لأزمة النازحين السورين والتي تجاوزت بأعبائها وأثقالها قدرة لبنان على التحمل والتصريف.
اذن هناك استعداد دولي لمساعدة لبنان وجهوزية دائمة لتلبية احتياجاته ولا يبقى امام لبنان حكومة ومسؤولين بالدرجة الأولى إلا ان يثبت انه اهل لهذه المساعدة ومستحق لهذا الاهتمام.
وهذا الاثبات يكون من جهة عبر التزام القواعد والمعايير الدولية ومن جهة ثانية عبر المضي قدماً في مسارات سياسية ودستورية داخلية تؤمّن الديموقراطية والحريات وتحترم المؤسسات والاستحقاقات الانتخابية…
2- عمل الهيئات الاقتصادية
ثانياً: هناك الهيئات الاقتصادية الناشطة في حركة لا تهدأ، المدركة لحجم الاخطار والتحديات، الواعية لمسؤولياتها ودورها في لجم الازمة الاقتصادية الاجتماعية والتخفيف من وطأتها وتداعياتها.
ان هذه «الهيئات» تظهر دينامية وحيوية، وتطلق مبادرات وأفكار ومشاريع وخطط، كونها تتمتع بحس ومسؤولية وطنية وسعي دؤوب الى تحصين وتحسين الأوضاع رغم كل الضغوط السياسية والصعوبات الاقتصادية.
إنها إرادة الحياة، إرادة الصمود، إنه صراع البقاء… نعم الهيئات الاقتصادية تقوم بدور فاعل ومؤثر في امتصاص الازمات وتدويرها، وفي اجتراح الحلول والتصدي للمشاكل، وفي اضفاء روح وأجواء إيجابية على مجمل الوضع وفتحه على آفاق مستقبلية واعدة.
وإذا قُدّر للبنان أن ينجو ويعيش ويصمد وسط منطقة متفجرة ضربتها رياح الحروب والأزمات، فلأنه يتمتع بثلاث نقاط قوة وتوجد فيه ثلاث مؤسسات حاسمة في معادلة الاستقرار: الجيش الذي يضمن الاستقرار الامني ومعه باقي الاجهزة الامنية، ومصرف لبنان الذي يضمن الاستقرار النقدي والمالي، والقطاع الخاص الذي هو في أساس الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وهذا القطاع الخاص تمثله الهيئات الاقتصادية التي تقود عملية حماية وصيانة للوضع الاقتصادي حتى لا يقع في المحظور ولا في الهاوية، وقد نجحت الى حد بعيد في هذه المهمة التي تختلط فيها ضرورات وطنية ومصالح المجتمع افراداً وشركات.
ولا يمكن ان نتحدث عن الهيئات الاقتصادية وغرف التجارة والصناعة اللبنانية من دون أن نذكر رئيسها محمد شقير المدافع الشرس عن الاقتصاد اللبناني والذي يعمل جاهدآ محاطآ بكبار الشخصيات الاقتصادية اللبنانية المشهود لها بوطنيتها وبنجاحها كل في اختصاصه الى تنمية العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية والاجنبية.
رئيس اتحاد الغرف اللبنانية اثبت فعلاً وممارسة انه صلب وواقعي في تناوله الملفات والمسائل الاقتصادية والاضاءة عليها، وأنه رغم حجم الضغوط والمضايقات التي يعيشه الاقتصاد اللبناني يظل متمتعاً بروح إيجابية وتصميم وعناد، ويعمل على اضفاء مسحة تفاؤل ويطرح حلولاً عملية تأخذ بالاعتبار أوضاع ومصالح العمال وأرباب العمل مما يعطي شعور الاطمئنان والرضى للجميع.
3- الانتشار اللبناني
ثالثاً: هناك ظاهرة النجاح والتفوق اللبناني في كل دول العالم، وهذه ظاهرة دولية تؤكدها الوقائع والإنجازات وتدعو الى الافتخار والاعتزاز باللبنانيين المنتشرين في كل ارجاء العالم وزواياه والذين أينما حلّوا زرعوا الخير والمحبة والمثابرة والاجتهاد وحصدوا النجاح والتفوق والتميّز وساهموا في تقدم الدول والمجتمعات وفي إغناء الحضارات والثقافات…
الانتشار اللبناني ثروة وطنية وطاقة هائلة لا حدود لها، ومن حسن الحظ ان هذا الانتشار بدأ منذ سنوات يلقى التقدير والاهتمام في لبنان وتُقدَّر قيمته ومكانته بجهد ومثابرة من المؤسسة المارونية للانتشار برئاسة الوزير السابق ميشال اده اطال الله بعمره ويكملها اليوم خلفه نعمت افرام والتي قامت مشكورة بجهد مركز لإعادة ربط المغتربين بوطنهم الام وتوصلت وبالتنسيق مع وزارة الخارجية والمغتربين الى خطوات وانجازات متقدمة لا سيما على صعيد تمكين المغتربين والمتحدرين من استعادة جنسيتهم اللبنانية.
هذا انجاز مهم وجيد ويجب ان يستكمل ليس فقط على صعيد تقوية الروابط والصلات بين لبنان المقيم ولبنان المغترب وانما ايضاً على صعيد جذب واستقطاب الطاقات والثروات اللبنانية للإفادة منها في تطوير لبنان، وليس فقط على صعيد إعادة الجنسية وانما ايضاً على صعيد إعادة اللبنانيين في الخارج الى وطنهم، ولن يصبح ذلك ممكناً الا إذا وجدت بيئة حاضنة لآمال وتطلعات اللبنانيين كافة في الخارج والداخل ومشجعة لهم على الاستثمار وتنفيذ المشاريع الطموحة… وهذا صعب في ظل نظامنا ولكنه ليس مستحيلاً، ويصير ممكناً إذا توافرت خطط التطوير وبناء دولة عصرية حديثة وانطلقت عملية تغيير واصلاحات إدارية وسياسية واسعة…
في الختام نقول عسى الانتخابات النيابية المقبلة تكون «الشرارة» والخطوة الأولى على طريق الالف ميل…