لم يكن لبنان يوماً مجرد دولة صغيرة على هامش الأحداث، بل كان مشروعاً سياسياً حضارياً فريداً، وليس الحياد الإيجابي الذي يعكس الثقافة السياسية المتميزة لمؤسسيه إلا مثال لفرادته. غير أن تخلي القيادات المتلاحقة عن نهج المؤسسين، الذين جعلوا مصلحة الوطن أولوية فوق كل اعتبار، دفع بلبنان إلى مسار خطر، حيث أصبح تدريجياً ساحة صراعات إقليمية تفوق طاقته.
في عام 1949، وقّع لبنان اتفاقية الهدنة مع إسرائيل بعد مواجهة عسكرية ضمن إطار عربي شامل. وضعت التطورات العسكرية والسياسية المسؤولين اللبنانيين في تلك الحقبة، مثل رياض الصلح وبشارة الخوري وفؤاد شهاب، أمام خيار واحد وهو تغليب المصلحة الوطنية على كل اعتبار آخر. لم تكن الاتفاقية مجرد وثيقة تنظم الحدود، بل عكست رؤية قيادة وطنية أدركت أن مصلحة البلاد تتجاوز الحسابات الطائفية أو المكاسب الشخصية.
جاءت الاتفاقية لتثبيت استقرار الحدود وحماية سيادة لبنان من أي انتهاكات خارجية، مع وضع أسس قانونية واضحة لهذه الالتزامات. نصت موادها على حظر استخدام القوة العسكرية لحل النزاعات، مما ضمن حماية الحدود اللبنانية من أي اعتداء. كما حظرت التحركات العدوانية على طول الحدود، ما يعكس التزاماً دولياً بضمان سلامة الأراضي اللبنانية. وأكدت الاتفاقية خط الحدود المعترف به دولياً، مما عزز شرعية الدولة اللبنانية وحصّنها من أي محاولات للتعدي على سيادتها.
في تلك الحقبة، جسدت القيادة الوطنية مفهوم الحياد الإيجابي الذي حصّن لبنان من التدخلات الخارجية، وحافظ على استقلالية قراره السياسي. بفضل هذا النهج، أصبح لبنان نموذجاً للاستقرار والتعايش، ودولة جسر بين الشرق والغرب.
مع ذلك، بدأت بوادر الأزمات بالظهور مع تراجع الالتزام بمبادئ المؤسسين. أزمة عام 1958 كانت مؤشراً مبكراً على تصدع هذا النموذج، حيث انزلق لبنان نحو صراعات إقليمية ذات خلفيات طائفية. ثم جاء اتفاق القاهرة عام 1969، الذي سمح باستخدام الأراضي اللبنانية كقاعدة للعمل الفلسطيني المسلح، ليضع لبنان في مواجهة اجتياحات إسرائيلية ودوامة من العنف.
في الثمانينيات، برز “حزب الله” كقوة عسكرية ذات ارتباط إقليمي، مما جعل لبنان جزءاً من مشروع إيراني أوسع. وعلى مدى عقود، تحالفت القيادات السياسية مع قوى خارجية لتحقيق مكاسب آنية، ما أضعف المؤسسات الوطنية وحوّل الدولة إلى كيان عاجز عن حماية مصالح شعبها.
اليوم، ومع سقوط نظام الأسد وتآكل البنية العسكرية لـ “حزب الله”، يبدو أن لبنان أمام فرصة تاريخية للعودة إلى نهج المؤسسين. ومع ذلك، تبقى هذه الفرصة نظريّة في ظل استمرار “حزب الله” باستخدام لبنان لخدمة مشاريعه الإقليمية، واستمرار الطبقة السياسية المتحالفة معه في ترسيخ حالة الشذوذ السياسي القائمة منذ عقود.
رغم ذلك، يملك لبنان نافذة لاستعادة دوره التاريخي إذا ما التزمت قيادته بروح الحياد تحت إشراف وضمانة دولية حقيقية. يجب على “حزب الله” أن يلتزم بما وقّع عليه، مما سيمهد الطريق لاستعادة سيادة الدولة. استعادة السيطرة الكاملة على القرار الوطني، وتفكيك أي مظاهر لتعددية السلاح خارج إطار الدولة، شرطان أساسيان لإنقاذ البلاد.
إن الخيار أمام لبنان اليوم واضح: إما أن يعود إلى نهج المؤسسين الذين طبقوا مفهوم الحياد قولاً وفعلاً، أو أن يظل ساحة لصراعات الآخرين. فالعودة إلى الحياد ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية لبناء دولة قادرة على حماية شعبها وضمان مستقبلها.