IMLebanon

أولويات ما بعد التأليف

 

المرحلة الفاصلة بين الإنتخابات النيابية وتأليف الحكومة نقلت البلد من التعاون إلى الخلافات السياسية وخلّفت أثاراً سلبية على العلاقات التي جمعت القوى السياسية التي انتخبت الرئيس ميشال عون، الأمر الذي يستدعي محو آثار هذه المرحلة واعتبارها استثنائية والعودة إلى القاعدة التي أنتجت التسوية الرئاسية.

 

يعوِّل العهد كثيراً على الحكومة العتيدة لتبديد الإنطباع العام بأنّ ما بعد انتخاب الرئيس ميشال عون هو كما قبله، علماً أنّ الإستقرار السياسي الذي شهدته البلاد غير مسبوق منذ العام 2005، فحافظت المؤسّسات الدستورية على انتظامها في العمل، في ظل إرادة سياسية على تطويق الملفات الخلافية وتجنيب المؤسسات انعكاساتها السلبية. ولكن هذا لا يمنع من أنّ نجاح الحكومة العتيدة يستدعي السهر على العناوين الآتية:

 

ـ أولاً، التمسّك، بل التشدّد، في سياسة «النأي بالنفس» التي تشكّل المدخل الأساس للإستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي، ومن دونها، يعني العودة إلى الإنقسامات العمودية، لأنّه في ظل التوازن السياسي القائم، لا قدرة لأي فريق على أخذ البلاد في الإتجاه الذي يريد، إلّا إذا كان هناك من يريد الإطاحة بهذا الإستقرار لحسابات خارجية، وقد نَعِم لبنان باستقرار مهم مقارنة مع أوضاع المنطقة المتفجّرة.

 

و«النأي بالنفس» ليس شعاراً او بنداً من بنود البيان الوزاري، بل يستدعي ترجمة عملية على أرض الواقع في ثلاثة جوانب أساسية:

 

الجانب الأول، يتصل بالكف عن أي محاولات تطبيعية مع النظام السوري، وترحيل كل ملف العلاقة مع سوريا إلى ما بعد انتهاء الحرب وقيام تسوية جديدة تحظى بشرعية سورية وعربية ودولية. ولا يجب قبل ذلك إثارة هذا الملف، إنما إبقاء العلاقات على المستوى الموجودة فيه اليوم.

 

أما الجانب الثاني، فيتصل بإبقاء مبادرة الدفاع عن لبنان في يد الدولة اللبنانية وحدها وعدم الإقدام على أي خطوات آحادية يمكن ان تجرّ لبنان إلى حرب.

والجانب الثالث، مواصلة سياسة الفصل بين الموقف الرسمي للدولة اللبنانية وثوابتها في علاقاتها الخارجية، وبين موقف «حزب الله».

 

ـ ثانياً، توحيد المعايير في ممارسة الشأن العام، كون أحد عناوين الخلاف الأساسية تمحور حول طريقة إدارة الدولة، بين من يريد إستمرار القديم على قِدمه في سياسة أدّت إلى تعميق الفساد في الدولة وتوسيع مكامن الخلل وتيئيس الناس وتعريض الدولة للانهيار، وبين من يريد تكريس نهج جديد أو طبيعي وبديهي في ممارسة الشأن العام، ويرتكز على الإلتزام بالدستور والقوانين المرعية والشفافية. فلا يجب مثلاً، ان يكون هناك أي خلاف حول ضرورة العودة إلى إدارة المناقصات في كل المناقصات، وهكذا دواليك.

 

ـ ثالثاً، رفع أولوية الوضع الإقتصادي على أي أولوية أخرى، لأنّ لبنان معرّض لانهيار فعلي، إذا لم تُقدم الحكومة على تطبيق مقررات «سيدر» وتنفيذ إصلاحات بنيوية في الإقتصاد، تؤدي إلى إطفاء جزء من المديونية وتحريك العجلة الاقتصادية. ولا يجب إطلاقاً ان يكون هذا الجانب موضع تباين او خلاف، بل يُفترض ان يكون محط إجماع لإبعاد الخطر المُحدق عن لبنان.

 

ـ رابعاً، وضع خريطة طريق عملية لعناوين أساسية يُعمل على تنفيذها وتؤدي إلى ترييح الناس على المستوى الحياتي والاجتماعي، من خلال الإنكباب على أولويات الناس.

 

ـ خامساً، إبعاد الحسابات الإنتخابية النيابية والرئاسية عن الحكومة، بمعنى أنّه إذا كانت سياسة «النأي بالنفس» تشكّل مصلحة لبنانية عليا للإستقرار السياسي وتجنيب لبنان انعكاسات سياسة المحاور، فانّ «النأي بالنفس» عن الاستحقاق الرئاسي يشكّل مصلحة أكيدة للاستقرار السياسي، خصوصاً أنّ الانتخابات الرئاسية في سنة 2022، والخلافات السياسية الأخيرة سببها رئاسي بامتياز، من خلال استخدام الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة من أجل تعزيز مواقع وتطويق أخرى لخلفيات رئاسية. وبما أنّ الانتخابات النيابية تمّت والحكومة تشكّلت مبدئياً، فيجب الكف عن تلك السياسات والتي في حال استمرارها ستؤدي إلى تعطيل البلاد واستمرار الفراغ بأشكال أخرى.

 

ـ سادساً، إحياء العلاقات بين القوى السياسية وإزالة الدشم والمتاريس التي ارتفعت في الأشهر الأخيرة على أثر الإنتخابات وتأليف الحكومة، خصوصاً أنّ المساكنة في حكومة العهد الأولى، أظهرت أنّ في قدرة اللبنانيين تجاوز انقساماتهم الاستراتيجية لمصلحة أولوياتهم الحياتية، وبالتالي يجب تطوير هذه التجربة وتعميقها، ليس فقط من أجل الاستقرار السياسي والإنتاجية السياسية على أهميتهما، بل من أجل تقليص مساحات الخلاف وإعادة توحيد البلاد على معايير وطنية مشتركة.

 

ـ سابعاً، إحياء «إتفاق معراب» الذي يشكّل مصلحة وطنية استراتيجية، لأنّ وحدة المسيحيين من وحدة لبنان، وقوتهم تؤدي إلى تقوية الدولة وتعزيز مناعتها، وعدم التفريط بالأهداف الاستراتيجية لمصالح آنية واعتبارات تكتية.

 

فبمقدار ما كان الرهان كبيراً على حكومة العهد الأولى، فإنّ الرهان على حكومة العهد الثانية هو بالمقدار والحجم نفسيهما. والمطلوب واحد، دخول الحكومة بروحية جديدة وبقوة وتعاون وتنسيق، كون ما يمكن أن تحققه في أشهرها الأولى هو الأساس، لأن الناس في حاجة إلى صدمات إيجابية، وغالباً ما تعطي فترات سماح عند كل إنطلاقة جديدة، وهذه الفترة بالذات يجب التقاطها وتحويل لبنان ورشة فعلية، بغية تحقيق الإنجازات واستعادة ثقة الناس بالدولة والمؤسسات، والتي يجب ان تشكّل أولوية الأولويات.