توحي تحركات ستيفان دي ميستورا بأن الحروب في سورية انتهت، وأن مرحلة من الصراع السياسي وتقاسم الحصص بدأت بين المكونات المنهكة وما تمثله على الصعيدين الداخلي والخارجي، فيما يشكل النظام الطرف الأكثر تماسكاً في ظل تمتعه بالشرعية الدولية، وتشكل المعارضات الخارجية الطرف الضعيف، نظراً إلى الخلافات المستحكمة بينها، فالمنصات المتعددة التي ترعاها عواصم عربية وأجنبية ليست لديها رؤية موحدة إلى سورية المستقبل، وتتعدد توجهاتها بتعدد مصالحها، وبعضها ما زال، على رغم هزيمته العسكرية، متمسكاً بالدعوة إلى تشكيل هيئة لإدارة «المرحلة الانتقالية»، يعهد إليها صوغ الدستور وإجراء انتخابات عامة «نزيهة».
في المبدأ ليس من صلاحية أحد صوغ الدستور الجديد غير السوريين. وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية وليد المعلم عندما قال خلال لقائه دي ميستورا هذا الأسبوع إن على لجنة الصوغ المنوي تشكيلها: «الالتزام القوي بسيادة سورية واستقلالها ووحدتها أرضاً وشعباً، والشعب السوري هو صاحب الحق الحصري في تقرير مستقبل بلاده. وبناء عليه فإن كل هذه العملية يجب أن تكون بقيادة وملكية سورية وذلك باعتبار الدستور وكل ما يتصل به هو شأن سيادي بحت يقرره الشعب السوري بنفسه».
لكن تشديد المعلم على «الشأن السيادي» لا يمنع أن تكون هناك أطراف محلية ودولية ستعرقل هذا الشأن، فكل دولة تدخلت في الحروب المستمرة منذ سبع سنوات تحاول أن يكون لها تأثير، ليس في صوغ الدستور فحسب، بل في مستقبل سورية السياسي وانحيازها إلى أحد المحورين (الروسي ومن معه والأميركي ومن معه) اللذين تشكلا خلال هذه السنوات، ويسعى كل منهما إلى ترسيخ نفوذه، بعدما انتهت «سورية المفيدة» التي روِج لها في الإعلام، قبل طرد المسلحين من حلب، في محاولة لتقسيم البلاد على أساس طائفي. لدينا نموذجان لدستورين صيغا بعد حروب أهلية وتدخلات خارجية: الدستور اللبناني والدستور العراقي.
في لبنان كانت صلاحيات رئيس الجمهورية واسعة فانتزعها «دستور الطائف» منه وأسندها إلى مجلس الوزراء «مجتمعاً»، ما ولد شعوراً بالغبن لدى المسيحيين. ونص الدستور الجديد على تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية، لكنها لم تشكل، وتكرست المذهبية وغرقت الطوائف في صراع على مناصب السلطة التنفيذية والوظائف العامة، مع المحافظة على «المناصفة بين المسيحيين والمسلمين»، وأصبحت البلاد في شبه حرب باردة لا يعرف أحد متى تشتعل، خصوصاً أن التدخلات الخارجية استفحلت عبر هذه الطائفة أو تلك. ونص الدستور على هوية لبنان، فبدلاً من أن يكون ذا وجه عربي أصبح عربياً صافياً.
أما الدستور العراقي، أو دستور بريمر فشبيه جداً باللبناني (كان الرئيس فؤاد معصوم يشيد به باعتباره إنجازاً متقدماً) ولا يقل سوءاً عنه، فقد صاغته الولايات المتحدة وحدها، بالتشاور مع زعماء الجماعات الطائفية وسمي باسم الحاكم «المدني» الأميركي بول بريمر، وقسم الشعب على أسس طائقية ومذهبية وعرقية، فاشتعلت حروب المحاصصة بينها، وتكرس الفساد في أحد أغنى البلدان العربية وأغرقه في الفوضى، وحرم الشعب من أبسط مقومات العيش، فيما يدعي كل زعيم أنه يحافظ على حقوق جماعته، أما الاحتكام إلى الدستور فلا يحل هذه الخلافات لأن كل طرف يفسره وفق مصلحته.
في سورية، كما في لبنان والعراق، أفرزت الحروب أحزاباً وأمراء كل منهم يمثل الجهة التي رعته ومولته طوال سنوات «الثورة»، ويناضل الآن ليكون عضواً في لجنة صوغ الدستور لإثبات وجوده وتضمين النص ما يحفظ حصته ويثبت ولاءه لرعاته. ولا شك في أن الاحتلالين التركي والأميركي والوجود العسكري الروسي والإيراني تشكل عناصر ضغط على لجنة الصياغة، فهل سيختلف الدستور السوري عن دساتير ما بعد الحروب الأهلية؟ وهل ستحترم نصوصه ويكرس المواطنة بدلاً من المحاصصة؟ أي هل سيكون دستوراً لدولة علمانية واحدة؟ أم سيعتبر الشعب شعوباً تنتمي إلى جماعات ما قبل الدولة؟