ينجلي المشهد القطري أكثر فأكثر ليضع الأزمة الخليجية في إطار تحوّل كبير، عنوانه إنتهاء صلاحية خيارات شكّلت التاريخ السياسي للشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وحكمت ميزان القوى فيه منذ العام 1979. تجربة استخدام الإسلام السياسي ابتدأت مع محاولة تطويق الإتحاد السوفياتي بأنظمة متطرفة تمهيداً لإسقاطه. في إيران، سقط الشاه وغادر إلى المنفى في 16 كانون الثاني/ يناير عام 1979 وعاد آية الله الخميني إلى طهران في الأول من شباط/فبراير 1979 بعد 14 عاماً من النفي ليلقى ترحيب ملايين الإيرانيين. وفي أفغانستان، وقّع الرئيس الأميركي جيمي كارتر توجيهاً يخوّل وكالة المخابرات المركزية الأميركية بمساعدة الحركات المعارضة في 3 تموز/يوليو 1979، هكذا كتب مدير الوكالة المخابرات المركزية السابق «روبرت غيتس» في مذكراته المعنوّنة «من الظلال»، وفي 27 كانون الأول/ ديسمبر 1979، قامت الـ «كي جي بي» والقوات الخاصة السوفياتية باحتلال الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية الرئيسية في العاصمة كابول، بما فيها قصر تاجبك الرئاسي، حيث تخلصوا من الرئيس حفظ الله أمين. سقط الإتّحاد السوفياتي بعد عشر سنوات واستساغ الأميركيون لعبة الإسلام السياسي. إنهار العراق تحت وطأة تسوية سياسية أميركية إيرانية أدّت الى قيام فدرالية طائفية، وانتقل النموذج الى سوريا وكاد أن ينتقل إلى دول الخليج العربي. الإستراتيجية الأميركية كان هدفها تحقيق توازن قوى يتمّ إذكاؤه بشكل دائم بين أصوليتين سنيّة وشيعية، كوسيلة لإسقاط المنطقة في فوضى دائمة.
تُنبىء الأحداث المتلاحقة التي واكبت الأزمة القطرية بسقوط خيار استخدام الإسلام السياسي. فليس من قُبيل الصدف أن تتراكم الإجراءات المتّخذة من المملكة السعودية ودولة الإمارات والبحرين والأردن ومصر ـــــــ التي قفزت فوق حاجز التلميح باتّهام قطر برعاية الإرهاب الى ما بعد تسمية الأمور بأسمائها ـــــــ والإجماع الدولي الأوروبي والأميركي على دعوة قطر لوقف تمويل الإرهاب، مع انحسار العمليات العسكرية في سوريا واقتصار الصراع فيها على إقفال الطرق الرئيسية بين دمشق وبغداد، وظهور ترسيم بالخطوط الأولى لمناطق نفوذ أميركية سواء في الشمال مع قوات سوريا الديمقراطية التي تخوض معركة تحرير الرقة، أو في الجنوب مع جيش سوريا الجديد الذي يمسك بمثلث الحدود العراقية السورية الأردنية، وفريق آخر قاعدته روسيا على أن تحدّد مكوّناته لاحقاً يمسك بمناطق الوسط حتى الساحل الشمالي. هذا بالإضافة الى التراجع الميداني لتنظيم الدولة وخسائره العسكرية المتلاحقة في الرقة وفي غرب الموصل بعد خسارته لشرقها، وفي ليبيا لا سيما بعد دخول مصر على خط ضرب الإرهاب واستهدافها لقواعد التنظيم في الداخل الليبي. هذا بالإضافة الى تأجيل انعقاد مؤتمر آستانا الى موعد غير محدّد وغياب الحديث عن انعقاد جنيف وخفوت أصوات منابر المعارضة على اختلاف مسميّاتها.
إنّ قراءة في مسار الأحداث في الميدان السوري، لا سيما بعد الإستدارة التركية نحو روسيا والتّخلي عن المعارضة بكافة تلاوينها الإسلامية وتركها في الميدان تواجه مصيرها أمام قوات النظام والميليشيات الطائفية والطيران الروسي وإقفال الطريق أمام دعم فصائل المعارضة، تؤشر إلى تحوّل في اعتماد المسميّات الإسلامية للتغيير. الإتّفاق بين تركيا والدول الخليجية على دعم الفصائل الإسلامية أضحى أسير الإستثمار التركي، حيث بدت تركيا عازمة على تهميش سائر المعارضات باستثناء تلك التي تعمل بأوامر أنقرة، لتعويم دورها الإقليمي إنطلاقاً من البوابة السورية. وبدا الدعم الخليجي للمعارضة الإسلامية غير ذي قيمة بل إنّه يأتي بنتائج عكسية إذ إنّه يعطي الحجة لمزيد من التدخل الإيراني ويقدّم لتركيا المزيد من الفرص للريادة في العالم الإسلامي. هذا فضلاً عن أنّ ممارسات الفصائل الإسلامية، بصرف النظر عن دور أجهزة المخابرات في ذلك، شكّلت نقطة الضعف التي تمكّن من خلالها النظام من وضع الغرب والولايات المتّحدة أمام خيارين، المحافظة على النظام الذي أثبت جدارته في ضبط حدوده مع إسرائيل وفي احترام الأقليات الإثنية رغم كلّ ممارساته الشاذة في الداخل على مستوى تحقيق الديمقراطية والمشاركة السياسية، أو القبول بتحوّل سياسي تقوده فصائل اسلامية تنادي بحكم اسلامي وليس لديها أجندة سياسية واضحة. الغرب وإن أبقى على أولويته للعملية السياسية لم يكن متحمساً لدعم المعارضة وهذا ما أعطى متّسعاً من المجال للتدخل الإيراني الى جانب النظام وهو ما أعطى الغطاء الدولي للتدخل الروسي لإنهاء الصراع الذي بدأ يتشظى إرهاباً الى الداخل الأوروبي.
الإسلام السياسي أضحى الأداة المثلى لتطوير الإختراق التركي في العالم العربي وجسر عبور متاح للتمدد الإيراني تحت عنوان مكافحة الإرهاب. إسقاط هذا النموذج بما يعنيه من دلالات في اللاوعي الإسلامي الراديكالي من قبل المملكة العربية السعودية حاضنة للحرمين الشريفين وجمهورية مصر العربية حاضنة الأزهر الشريف، له مشروعيته ودلالاته، وهذا يفترض اسقاط النموذج المقابل. المواقف المتعاطفة مع قطر من تركيا وإيران لم تستطع تجاوز الدعم التمويني والتلويح التركي بارسال وحدات عسكرية الى قطر لا يعدو كونه تأييداً معنوياً غير قابل للتحقيق لأسباب عملانية ولوجستية يُدركها القادة العسكريون في تركيا أكثر من سواهم. فهل يستطيع النظام الإسلامي في كلّ من إيران وتركيا كنموذجين مطروحين للتصدير الى العالم الإسلامي من مقاومة رياح التغيير؟ وهل ستدغدغ رياح العلمانية والطروحات الإصلاحية مجدداً طموحات الشعبين التركي والإيراني؟