قمة بطرسبورغ مع فلاديمير بوتين حضرها رجب طيب أردوغان بصفته رئيس دولة تكرست لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط، تماماً بعد فشل الانقلاب العسكري واجماع الأحزاب وأطياف الشعب على التمسك بالدولة المدنية لمنع الجيش من «سرقة» الدولة.
بهذا المعنى تأتي ندية أردوغان أمام بوتين وليس من حدث تفصيلي هو معركة حلب، على رغم إضفاء الأهمية عليها الى حدّ القول إن العالم كله وليس سورية وحدها سيتأثر بهوية الجهة المنتصرة. كانت سورية جزءاً من محادثات الرئيسين الروسي والتركي وليست الجزء الأهم، على رغم توجه رئيسي الأركان والاستخبارات التركيين أمس الى موسكو لمناقشة الوضع السوري بتفاصيله العسكرية تمهيداً للمساهمة في الحل بمشاركة قوى إقليمية ودولية أخرى مؤثرة.
ولن يجازف أردوغان «الإخواني» بموقع تركيا الذي اكتسبته دولة وشعباً من فشل الانقلاب، خصوصاً ان المتهم الرئيسي فتح الله غولن هو زعيم تنظيم إسلامي، لذلك سنرى أردوغان مع حزبه، من الآن، في موقف الحذر تجاه التنظيمات الإسلامية السياسية الأخرى وفي موقف الثقة بالأحزاب والقوى الشعبية التركية شريكته في الدولة المدنية. سيأنس الرجل بصفة الرئاسة ويستيقظ من كابوس «السلطان» الذي طالما أربكه وأقلق الشعب التركي.
فشل الانقلاب يشبه حدثين استراتيجيين سبقاه في المنطقة، الأول هو هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967 التي بدأ معها تراجع الدور المصري في الإقليم وصعود إسرائيل كلاعب رئيسي، والحدث الثاني هو الغزو الأميركي/ الغربي الذي أنهى حكم الرئيس صدام حسين وفكّك الدولة العراقية ومجتمعها، مفسحاً في المجال لتصبح إيران لاعباً إقليمياً بعد فشلها في تحقيق هذا الهدف عبر حربها مع العراق التي حصدت أكثر من مليون قتيل.
ولا يغيب العرب عن التأثير في مصير منطقتهم على رغم انهيار العراق وسورية والتردي الاقتصادي والسياسي في مصر، فهم يأتون الى الدور المؤثر من باب الاقتصاد، ويتجلى الحضور العربي في دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمها السعودية، ذلك أن وصف القوى المؤثرة ينتقل في أيامنا من المجال العسكري الى المجال الاقتصادي. وبهذا المعنى تتراجع صورة روسيا كدولة عظمى على رغم كونها الثانية عالمياً في المجال العسكري، فيما يتعاظم تأثير دول أخرى بسبب قوتها الاقتصادية، وهنا جانب من الندية في قمة بوتين – أردوغان.
بعد القمة سقطت أوهام الذين تصوروا أردوغان مستسلماً في بطرسبورغ كذلك الذين تخيلوا بوتين منصتاً لأردوغان ومطيعاً. الواقع أن كلاً من الرئيسين حاول أن يأخذ من الآخر ما يلبي مصالح بلاده ويحفظ أمنها واقتصادها. وهنا تبدو العودة الى العلاقات التي سبقت إسقاط «السوخوي» والأمل في وصول التبادل الى 100 بليون دولار سنوياً هدية متبادلة، كما أن النقاش حول القرم والقوقاز أعطى روسيا هدية أمنية من تركيا المؤثرة في تلك المناطق، واستتباعاً في السيف التركماني الممتد حتى شمال الصين، والدليل هو الصدمة التي أحدثتها القمة في المتزمتين الإسلاميين الذين اتهموا أردوغان شفهياً لا إعلامياً بأنه باع القرم والقوقاز الى الروس.
قمة أولى في سياق قمم ستعقبها، لأن ملفات الطرفين كثيرة ومعقدة. ويبدو بوتين وأردوغان كأنهما يفككان قنابل موقوتة كانت تهدد بحرب سبق أن اشتعلت مرات عدة بين القياصرة والعثمانيين. وإذا كانت ظروف الطرفين لا تسمح بحلف قد تندرج فيه دول أخرى، فإن القمة وما سيعقبها ستؤدي الى إنفراجات يحصد ثمارها الطرفان، ففي مقابل طمأنينة تقدمها تركيا لروسيا في التأثير على الإسلام الروسي والآسيوي، فإن أنقرة تستفيد من صداقة موسكو ما يساعدها في مواجهة إملاءات الاتحاد الأوروبي المتمحورة حول حقوق الإنسان وبعض القوانين الضاغطة على الحريات. لكن أنقرة الباقية في حلف الأطلسي ستجد طريقة للعودة الى علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة، خصوصاً أن واشنطن في سبيلها الى الاقتناع بأن تركيا ذات دور إقليمي مؤثر ولا يمكن لجيشها أن يتحكم بالدولة ويعقد صفقات استخبارية وغير استخبارية في معزل عن الحكومة والبرلمان.
أما الحرب السورية والصعود الكردي فليسا منحصرين في التأثير الروسي والتركي، على رغم أن كل طرف يشكل جزءاً من جبهة تواجه الآخر. الملفان معقدان تتداخل فيهما مصالح دول عظمى وإقليمية، وسيحددان مستقبل وجود سورية دولة ومجتمعاً ومصير الصعود القومي الكردي الذي تتضرر منه إيران وتركيا وما تبقى من دولة اسمها سورية، ولا يغيب هنا الحضور العربي العميق لأن موت الإنسان وخراب الحواضر يحدثان في المكان العربي التاريخي والمؤثر في مستقبل مجتمعات تجمعها لغة وحضارة.