أطلقت وزارة الإتصالات – المديرية العامة للبريد في 6 حزيران الماضي محاولة جديدة لإتمام تلزيم قطاع البريد، إثر إنتهاء فترة التمديد السابعة لـ»ليبان بوست»، بعدما أدارت القطاع لأكثر من 25 سنة منذ جرت خصخصته عام 1995. وفقاً لدفتر شروط التلزيم الذي نُشر على موقع هيئة الشراء العام، فإنّ الإلتزام المقبل يسعى لتوقيع عقد لمدة تسع سنوات، يتضمن «إعادة تأهيل، وتمويل، وإدارة، وتشغيل، وتحويل شبكة الخدمات البريدية». فتكون هذه ثالث محاولة لتلزيم القطاع بعد مزايدتين سابقتين لم تبلغا «الخواتيم السعيدة». الأولى بسبب عدم تقدّم أي عارض، والثانية بسبب إرساء التلزيم على عارض واحد، ألغت هيئة الشراء العام قبول عقد تلزيمه، لما بيّنته من «مخالفات جوهريّة» تلحق الأضرار بالمال العام.
كان لافتاً، خلافاً لمحاولتي التلزيم السابقتين، أن تترافق الدعوة الأخيرة مع حملة دعائية تلفزيونية، موجّهة للمهتمين الراغبين بتقديم العروض، كي يطّلعوا على دفتر الشروط الذي نشرته الوزارة على موقع هيئة الشراء العام. وهذا ما يعكس أقّله حسن النية بالإعلان الواسع عن المزايدة، إستجابة لتوصية أكّدت عليها الهيئة في ختام كتاب توّج مرحلة من النقاشات حول صيغة دفتر الشروط قبل إطلاقه بشكله النهائي، و»على مسؤولية الوزارة». اذ لم تر الهيئة مانعاً من ذلك، على رغم تسجيلها الملاحظات على بعض بنود دفتر شروطها، على أن يتم الإعلان عنها بشكل واسع، ومن خلال السفارات اللبنانية في الخارج، والمواقع الإلكترونية وصحف عالمية متخصصة، وأن يتم إعطاء العارضين المهلة الكافية لتحضير عروضهم. بما يعزز محاولة جذب شركات تشغيل بريد عالمية.
وفقاً لمصادر في هيئة الشراء العام فإنّ أهمية ملاحظاتها على دفتر الشروط منذ أُرسل بصيغته الاولى، أنها تعزّز المنافسة وتحافظ على حقوق الدولة المالية. وأهمها ما يتعلّق بالإعلان الواسع عن المزايدة، لإستقطاب الشركات الكبرى.
محاولات التفاف؟
إلا أنّ مصادر متابعة للموضوع تتخوف مما تكشفه محاولات الإلتفاف حول بعض هذه الملاحظات التي ترجمت في دفتر الشروط، من نيّات الجهة الشارية لـ»تهشيل» الشركات الكبرى بدلاً من جذبها، خصوصاً إثر إصرارها على فتح المنافسة على مؤسسات محلية تعنى بنقل «مواد المراسلات وأو الطرود البريدية»، أسوة بالشركات التي تعنى بإدارة القطاعات البريدية في دول، أو مقاطعات يوازي حجم بريدها حجم القطاع الذي ترغب الدولة بتلزيمه. هذا في وقت أسقط دفتر الشروط طريقة التقييم السابقة التي كانت تقوم على وضع علامات التأهيل للمتقدمين بعروض، واختزل العملية بعناصر التأهيل، أي الإكتفاء بالإشارة إلى كون العرض مؤهلاً أو غير مؤهل. وتعتبر المصادر «أنه إذا كانت هذه حلول إقترحتها هيئة الشراء العام لتعديل طريقة التقييم السابقة غير قائمة على أسس واضحة ومنطقية، فإنّه جرى استغلالها بما يناقض هدف الهيئة، وقد تم ذلك تحت غطاء توسيع المنافسة».
في المقابل تشدّد الهيئة من موقعها كهيئة حفاظ على المنافسة، على أنّ المطلوب أن تشترك شركات لديها الخبرة في موضوع المزايدة، بمقابل تحمّلها مسؤولية «تقدير عدالة الشروط الموضوعة ومدى تحقيقها لمبادئ المساواة والمنافسة وتكافؤ الفرص». واستبعدت أن تكون شروط المزايدة عاملاً يسهّل خوض المنافسة بالنسبة للشركات التي لا تمتلك الخبرات الكافية في موضوع المزايدة.
إلا أنّ الخلل وفقاً لما تراه مصادر متابعة، هو في كون دفتر شروط التلزيم لم يحدد موضوع المزايدة بشكل واضح، «أي أن يحدد المستهدف صراحة بشركات بريدية كبرى. بل هو ساوى بين هذه الشركات في حال تقدمت للمزايدة وفرص الشركات المحلية التي تعنى بنقل الطرود والطرود البريدية». وهذا ما يترك إنطباعات كثيرة وفقاً للمصادر بكون الوزارة لا تزال تعمل بعقلية التنفيعات التي تسعى إليها من خلال إرساء العقد على جهة معلومة مسبقاً من قبلها، وبالتالي تضييع مزيد من الفرص على قطاع يمكن أن يدر أموالاً على الخزينة العامة.
وتتوقف المصادر لتعزيز هذه الإنطباعات أيضاً عند الإصرار على حصر مهلة تقديم العروض بـ35 يوماً، من 7 حزيران إلى 12 تموز. وهذه مهلة تعتبر مصادر هيئة الشراء العام أيضاً أنّها ليست كافية. ولكنها تعوّل في حال إبداء الشركات الكبرى رغبتها بالمشاركة في المزايدة، على تمديد للمهل، ستوصي به الهيئة عند الحاجة.
لا قاعدة معلومات
أمّا المهلة المحددة حالياً فلا تعتبر المصادر أنها مشجّعة، وبرأيها أنها غير كافية للشركات أقّله لبناء قاعدة معلوماتها حول هذا القطاع، موجوداته وإمكانياته، وغيرها من المعلومات التي لا يمكن من دونها التقدم بعروض جدّية. علماً أنّ الوزارة بحد ذاتها لم تبد إستعداداً لتزويد الراغبين بهذه المعلومات، لكونها بالأساس لا تملكها، مع أن هذا النقص في المعلومات يخلق ثغرة أيضاً في تحديد حصّة الدولة من شراكتها مع القطاع الخاص الذي سيدير هذا المرفق بشكل حصري.
حدد دفتر الشروط هذه الحصة في حدها الأدنى بعشرة بالمئة. فكان لهيئة الشراء العام ملاحظة عليها أيضاً. إذ ترى مصادرها أنّه «لكون المشروع مشتركاً بين الدولة والقطاع الخاص كان الأجدر أن نعرف حجم المشروع لنحدد الحصص»، هذا في وقت تضمنت ملاحظات الهيئة تشديداً على وجوب تحديد هذه الحصة بناء على «دراسة مالية معمقة لوضع هذا الإستثمار على مدى السنوات السابقة، للإنطلاق منها إلى توقعات على مدى السنوات التسع المقبلة».
وفي حين تجد مصادر في الهيئة صعوبة في تقييم صحة هذه النسبة، «طالما أنّها إعتمدت فقط على مضاعفة تلك التي كانت محددة سابقاً في عقد ليبان بوست»، تكشف مصادر متابعة أنّ ذريعة الوزارة لعدم إتمام الدراسات المطلوبة كانت في عدم توفر الموارد المالية.
بالنسبة لهذه المصادر عندما لا يكون الموضوع علمياً ومنطقياً وإدارياً، لا يمكن مناقشته. وتلفت في المقابل إلى ما يتركه غياب هذه القاعدة العلمية من تداعيات على سائر بنود عقد التشغيل المتوقع وفقاً لدفتر الشروط. لتضيء أيضاً على تحديد دفتر الشروط لقيمة كفالة بمليون دولار، على الملتزم الفائز بالقطاع أن يضعها كضمانة حسن تنفيذ، وهذا ما يشير إلى افتراض حجم أعمال بعشرة ملايين دولار سنوياً من دون أي دراسة علمية تثبت صحة ذلك أيضاً.
تلزيم معرّض للإبطال
وتتوقف المصادر أيضاً عند الخدمات غير الحصرية التي سيقدمها المشغّل، والتي يتبيّن أنّ هناك معايير متعددة لاحتسابها، وتُحسم من بعضها تكاليف الخدمة قبل احتسابها، ما يعيد عقارب الساعة برأيها إلى الوراء. لأنّ ذلك يعني مشاركة الدولة بالأرباح بدلاً من مجمل الإيرادات بالنسبة لهذه الخدمات. وهذا ما قد يهدد عملية التلزيم عند إنجازها بإمكانية إبطالها مجدداً من قبل ديوان المحاسبة، بعدما تحفظت هيئة الشراء العام على هذا الأمر، وتمسّكت مصادرها بتقاسم الإيرادات وليس الأرباح…
وذريعة وزارة الإتصالات في عدم إعتماد المعيار نفسه بتحديد حصتها من الخدمات التي سيقدمها المشغّل، وفقاً للمصادر المتابعة، هي في كونها لا تتقاضى حصصاً عن هذه الخدمات غير الحصرية من الشركات التي تؤديها. إلا أنّ هذه الذريعة مرفوضة كما تشير هذه المصادر، خصوصاً أنّ مشغّل قطاع البريد الحصري، يتقّدم على غيره بانتشار خدمته على مختلف الأراضي اللبنانية، وبحجم خدماته وتنوعها. وإنطلاقاً من هنا تقول المصادر إما أن يقبل المشغّل بتأدية هذه الخدمات ويتقاسم كل إيراداتها، أو لا يقدمها. وهذا ما كان يجب أن تتمسك به وزارة الاتصالات برأيها، خصوصا أنّ إيرادات هذه الخدمات ستشكّل جزءاً كبيراً من حجم العمل المتوقع.
وإذ تستنتج المصادر تراجعاً في دفتر الشروط الأخير لجهة حفظ حقوق الدولة سواء لناحية المهلة المحددة لتقديم العروض، أو لناحية حصة الدولة من إيرادات هذا القطاع، تتوقف أيضاً عند الزيادة المتوقعة لهذه الحصة خلال 9 سنوات، والتي يبلغ مجموعها واحداً بالمئة فقط، بمعدل نصف بالمئة عن كل ثلاث سنوات. فيما الدفتر السابق كان يحدد زيادة سنوية بعد السنتين الأوليين، لفت بلوغها في العرض الذي قدمه إئتلاف «Colis Privé France وميريت انفست» في المزايدة التي ألغيت نتائجها سابقاً نسبة 31 بالمئة.
وفي حين تستبعد المصادر أن يشكّل تخفيض حصة الدولة من الإيرادات سبباً مشجعاً للشركات العالمية لتقديم العروض، فهي ترى أيضاً بالموجب الذي يفرض إنشاء الفائز بالمزايدة شركة حُدّد رأسمالها بعد نقاشات مطولة بـ 10 ملايين دولار «فريش»، خلافاً للنقاشات مع هيئة الشراء العام التي كانت توصي بتخفيض هذا الرأسمال، عاملاً آخر من عوامل تهشيل الشركات البريدية العالمية، التي لن ترغب بوضع إستثمارات في بلد عالي المخاطر المالية كلبنان.
لا رضى تاماً من هيئة الشراء
في المبدأ يفترض أن يتحول تلزيم البريد فرصة لتطوير القطاع أو أقّله لإستقطاب شركات لديها خبرة أفضل مما لدينا، يسهم إكتسابها في وضع خطة لما بعد السنوات التسع المحددة لمهلة الإلتزام. وهذا هو السقف الذي تحدده المصادر المتابعة لمطلق عملية تلزيم للقطاع. إلا أنها لا ترى في المحاولة الجديدة فرصة لذلك.
أما عدم ممانعة هيئة الشراء العام في إطلاق المزايدة، فلا يقترن وفقاً للمصادر المتابعة برضى تام على دفتر الشروط بصيغته النهائية. ولكن طالما أنّ ملاحظاتها تبقى قانوناً غير ملزم للجهة الشارية، فلا يمكنها أن تستمر بتحمل وزر أي تأخير إضافي في إطلاق المزايدة، بسبب نقاش لا يبدو أنه يحمل خلفيات متشابهة.
وهذا ما بدا واضحاً أيضاً في مقدمة الكتاب الذي وجهته الهيئة إلى وزارة الإتصالات، والذي يتوج مرحلة من الأخذ والرد بين الطرفين، نجحت من خلاله الهيئة في فرض بعض التعديلات الجوهرية على الصيغة الأولى لدفتر الشروط، من دون أن تكون هذه التعديلات كافية، وفقاً للمتابعين، أقله للحد من الخلل الذي يفخخ هذه المزايدة بإمكانية الطعن بنتائجها مجدداً.