اكثر من مرة تسبب بتأخير تأليف حكومة تعيين وزير. تمرّس باللعبة اكثر من فريق. اليوم حال من هذا القبيل. لا قرارات للحكومة قبل تعيين قائد للجيش. بات المنصب وصاحبه الحدث: بين مَن معه ومَن ضده، وما عداه شأن ثانوي
تعددت في الايام الاخيرة، لدى فريقي 8 و14 آذار، الحجج والحجج المضادة. تارة لدعم بقاء قائد الجيش العماد جان قهوجي في منصبه حتى انقضاء مدة تأجيل تسريحه في ايلول، وطورا لتعزيز المطالبة بتعيين قائد خلفا له. أكثرت الحجج والحجج المضادة في الاستعانة بالتاريخ وسوابق بغية تبرير وجهة النظر هذه او تلك:
ــــ مرة بتذكّر حالتي العمادين اميل بستاني وجان نجيم عام 1970، وثانية بحالتي العمادين ابرهيم طنوس وميشال عون عام 1984.
ــــ ومرة بالقول ان من غير الملائم انهاء ولاية قهوجي لئلا يُعدّ اقصاءً وتالياً رفض وضعه في التصرّف، او ان من غير المناسب تعيين قائد للجيش ما دام ثمة قائد قائم، او من غير المقبول الخوض في ذلك قبل انتخاب رئيس للجمهورية المعني بدوره باختيار رأس المؤسسة العسكرية.
في كل من الحجج والحجج المضادة تلك ما يكفي لاصحابها كي يقولوا انهم على حق.
ولأن لا سابقة تشبه حال قهوجي في قيادة الجيش في الوقت الحاضر منذ تأجيل تسريحه عام 2013 بقرار وزير، وكان على موعد مع احالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية. ولأنها المرة الاولى تستخدم المادة 55 في قانون الدفاع على نحو يتيح تأجيل تسريح قائد الجيش باقتراح القائد نفسه لنفسه تأجيل تسريحه بقرار يصدره وزير الدفاع، يصبح من السهولة بمكان العثور على سوابق ذات منحى مختلف، لكنها ذا مغزى ودال، تصلح لأن تكون قياسا مرجعيا للتحقق من صواب قرار تأجيل التسريح او عدمه، بعيدا من التسييس والتعلق بأوهام المواصفات الاستثنائية والجزع من الاستغناء عن قائد ــــ كان او سيكون ــــ ما دامت ثمة عبارة مأثورة لجورج كليمنصو ان «القبور ملأى بأولئك الذين لا يُستغنى عنهم».
1 ــــ في مذكرات غير منشورة لبستاني (كتاب «جمهورية فؤاد شهاب») يروي وقائع اجتماع بينه والرئيس فؤاد شهاب صباح 6 تموز 1964 في عجلتون ــــ وكان بستاني لما يزل قائدا للمنطقة العسكرية في الشمال ــــ قال الرئيس في معرض اصراره على رفض تجديد ولايته: «أنت تعرف انني اصدرت مرسوماً مدّد خدمة عادل شهاب (قائد الجيش) سنة اضافية. أعرف ان البعض تضايق من المرسوم، واعترف كذلك انه اجراء غير مستحب. لكنني لا اريد ان افرض على خلفي قائدا للجيش لم يختره هو في مطلع ولايته. سيكون صعبا على الرئيس المقبل تغييره طوال مدة ولايته. لهذا السبب، الوحيد، عمدت الى تمديد خدمة عادل شهاب قائدا للجيش سنة واحدة اضافية كي تنتهي ولايته بعد انتهاء ولايتي انا، وتتاح للرئيس المقبل حرية الموقف وتعيين قائد جديد للجيش يختاره هو».
لسنة خلت، قبيل موعد احالته على التقاعد في 30 حزيران 1963، مُدّدت ولاية اللواء عادل شهاب سنتين تنتهيان في 30 حزيران 1965، بمرسوم صدر عن مجلس الوزراء وقعه رئيس الجمهورية. عامذاك لم يشِ ذلك الاجراء، المتخذ تبعا لاصول التعيين في مجلس الوزراء ومن ثمّ تمديد الولاية، بمغزى ما رمى اليه الرئيس الراحل.
كيف تشبه حال قهوجي بسوابق بستاني ـ نجيم، غانم ـ سعيد، طنوس ــ عون، عون ـ لحود
2 ــــ في 9 ايلول 1975، أقيل العماد اسكندر غانم وعيّن العماد حنا سعيد خلفا له في حمأة حملة قاسية على الجيش ووحدته وتماسكه، وكان اتهم في ذلك الحين بالفئوية والانحياز، بالتزامن مع شعارات اطلقها الزعماء المسلمون، واخصّهم رئيس الحكومة رشيد كرامي ــــ وزير الدفاع ــــ بابعاد المؤسسة العسكرية عن النزاع الداخلي واعادته الى ثكنه وترك الحرب بين ايدي افرقائها. اتهم غانم بتوريط الجيش في الحرب الاهلية، وتنبأ السياسيون بانقسامه وتفككه، فدفع قائده الثمن كبش محرقة باقالته. استخدمت الذريعة نفسها لدى اقالة سلفه بستاني في 7 كانون الثاني 1970، بالقول بنقله الى ملاك السلك الخارجي سفيرا، الامر الذي لم يحصل للاثنين على السواء.
ومع ان غانم جيء به قائدا للجيش من الاحتياط في 25 تموز 1971، لم يُقل لدى اقالته ان الجيش يعاقب او يُقتص منه، بل قضي الامر بتسوية سياسية ظُنّ انها ستمهد لمرحلة جديدة. بيد انها لم تُجدِ في ما بعد، ولم تُنجِ الجيش من الانهيار والتفسخ والانقسام بعد اشهر قليلة.
اليوم تبدو حال قهوجي مماثلة تقريبا. كان من المفترض احالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية عام 2013، فاذا هو يستمر في الخدمة والمنصب بقرار وزير الدفاع سنتين، ويُرشّح نفسه لسنتين اخريين كونه سيقترح بنفسه على الوزير تأجيل تسريحه للمرة الثانية حتى ايلول 2017 كي يصدر القرار.
3 ــــ بالتأكيد تعيين قائد جديد لا يجعل الجيش في إمرة قائدين، الاول قهوجي تنتهي ولايته في ايلول، والثاني ــــ ايا يكن ــــ بات قائدا فور صدور المرسوم. بل يستبق اعفاء القائد الحالي مرسوم تعيين القائد الجديد. حصل ذلك مرارا: عندما خلف سعيد غانم فرجع الثاني الى تقاعده، وكذلك في 24 حزيران 1984 عندما أقيل طنوس من منصبه وعيّن عون خلفا له، ثم في 28 تشرين الثاني 1989 بمرسوم اعفى عون وعيّن العماد اميل لحود خلفا له. في اي من الحالات تلك لم ينشىء صدور المرسوم وجود قائدين: يذهب الاول قبل ان يأتي الثاني.
لم يكن اي من طنوس وعون ــــ كقهوجي ــــ بلغ سن التقاعد عندما اعفي، ما حتم ان يوضع في التصرّف. تاليا، ما ان يعيّن خلف لقهوجي ــــ متى عُيّن ــــ لا مبرر لوضعه في التصرّف كونه محالا سلفا، لسنتين خلتا، على التقاعد. وهو بذلك يعود كغانم الى التقاعد. لم يأتِ قهوجي الى القيادة بالطريقة نفسها لسلفه، لكنه لبث على رأس المؤسسة العسكرية على نحو مماثل تقريبا.
4 ــــ رغم صدور قرار اول بتأجيل التسريح، وربما ثان وشيك، بيد انه لا ينشىء لقائد الجيش حقا مكتسبا على نحو يمنع اعفاءه من منصبه قبل انهاء الولاية، في اي وقت، قبل انتخاب الرئيس او بعده. بل في الواقع ــــ لا الآن ولا قبلا ولا لاحقاً ــــ لا قائد للجيش لا يُعفى من منصبه في اي وقت بقرار من السلطة الاجرائية التي تعينه ـ والشواهد وفيرة ـ فكيف اذا أبقي فيه بقرار وزير بعد بلوغه السن القانونية.
ليست مشكلة القائد الحالي ولا فيه، بل محنة الجيش مع السلطة السياسية التي لا تحترم المواعيد والاستحقاقات، والسياسيين الذين ينجحون ــــ وهم يديرون خلافاتهم ونزاعاتهم ــــ في الاساءة وتوجيه الاهانة.