تتشابك الأرقام وتتعقّد الحسابات أكثر لتصبحَ لعبة «عَضّ الأصابع» أشدّ وجَعاً. على رغم ذلك فإنّ أطراف الصراع لا تزال قادرةً على الإيحاء بأنّها تُمسِك بزمام المبادرة وترفض الصراخَ وجَعاً، في انتظار صراخ الآخرين.
كان من المفترَض أن يشهد شهر آذار تطوّراً حاسماً على صعيد الاتفاق الأميركي – الإيراني في شأن البرنامج النووي. وكان واضحاً لدى العواصم المهتمّة أنّ الاتفاق أضحى في مراحله النهائية، وأنّ توقيعَه بات مسألة وقت ليس أكثر. لذلك اندفعَت تل أبيب في محاولاتها لعرقلةِ التوقيع، وقيل إنّ البيتَ الأبيض حاولَ التعجيلَ فيه مُحَدِداً شهرَ آذار موعداً لذلك.
لكنّ الطرف الإيرانيّ فاجَأ الإدارة الأميركية برأيٍ آخر. فخلال الأيام الماضية ترَدّدَ في الكواليس الديبلوماسية أنّ طهران أرسَلت إلى العاصمة الاميركية ما مفادُه استعدادَها الكامل لتوقيع الاتفاق في الموعد المحدّد في آذار، شرط الإعلان الاميركي عن رفعِ كاملِ العقوبات دفعةً واحدة عن إيران، وإلّا فلا مانعَ من تمديد المفاوضات، وبالتالي موعد التوقيع حتى توافر هذا الشرط. وفي الجواب الإيراني أنّ هذا القرار اتّخذه مرشِد الثورة وتفاهَم عليه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني.
من جهتِها، تجدُ الإدارة الأميركية صعوبةً حتى الآن في تلبيةِ الشرط الايراني، بسبب الصراع الداخلي الحاصل، خصوصاً مع السيطرة «الجمهورية» على الكونغرس.
وإزاء ذلك، من المتوقّع حصول تمديد إضافي للمفاوضات وانتظار شهر حزيران موعداً للتوقيع، إلّا إذا نجَحت الإدارة الأميركية في تلبية الشرط الإيراني. لكن أتى كلام جون كيري أمس في إطار الردّ على الموقف الإيراني وحملَ في طيّاته تحذيراً مبَطّناً من مغَبّة التأجيل.
وفي الانتظار، لا بدّ من ترقّب جملة استحقاقات تواجِه ساحات الشرق الأوسط، وفي طليعتها الانتخابات الإسرائيلية.
في العادة، تأتي التسويات بعد وصول الأوضاع إلى ذروة التصعيد، ووسط الصراع المفتوح في ساحات الشرق الأوسط، يبدو أنّ التعقيدات لم تصل بعد إلى الذروة المطلوبة.
وعلى رغم تشابُك الخيوط وتفاقُم التعقيدات إلّا أنّ مختلف القوى في الشرق الأوسط تعمل على أساس أنّ الأفقَ محكوم بالاتفاق الاميركي – الإيراني.
هكذا مثلاً تجهد السعودية في إعادة تشكيل جبهة متينة قادرة على التوازن، وبالتالي مواجهة إيران في المرحلة اللاحقة.
ففيما تستعجل التقارب مع تركيا التي أطلقَت إشارة البدء بتدخّلِها المباشر في سوريا، تحاول إقناعَ الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي بإنجاز تحالف إقليمي مع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يشمل مساهمةً تركيّة في تسوية وضعِ الإخوان المسلمين في مصر، وبالتالي تصبح فكرة السيسي بإنشاء قوّة عربية مشترَكة عامودُها الفقري الجيش المصري مهمّتُها مواجهة المدّ الإيراني بدلاً من أن يكون هدفها، كما هو مطروح حاليّاً، التوازن مع تركيا.
لذلك لم تكن مصادفةً أن يتزامنَ وجود الرئيسَين التركي والمصري في السعودية، على رغم عدم حصول لقاء بينهما. في وقتٍ يتقرّب فيه الملك السعودي من قطر وحتى من جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا قد نجَحوا في إعادة وصلِ خيوط تواصُلِهم مع واشنطن.
هذا التوازن العسكري متروكٌ لساحتَي العراق، وخصوصاً سوريا. أمّا في اليمن حيث نجح الرئيس هادي في الإفلات من الحوثيين، فإنّ السعودية ترسِل إشارات الموافقة على تسويةٍ سياسية شرط أن تعكسَ حقيقة الأحجام الشعبية لا التوازنات الميدانية، وإلّا فإنّها قد تنجرف في تصعيدٍ عسكري هو آخرُ خياراتها بسبب سلبياته الكثيرة.
إزاءَ كلّ هذا المشهد، هناك مَن يعتقد أنّ على اللبنانيين الدخول في فترة مراوحة جديدة في شأن الملف الرئاسي، ذلك أنّ الاقتناع الداخلي هو بأنّ بابَ الفرج الوحيد لفتح باب التسوية الرئاسية لن يكون إلّا عبر تسوية أميركية – إيرانية مؤجّلة إلى شهر حزيران.
وفي انتظار ذلك جملةُ ترتيباتٍ جديدة تطاوِل الساحة اللبنانية، فقد تحرَّكت قطر بقوّة تجاه «جبهة النصرة» حيث سيشهد ملفّ الأسرى العسكريين لدى هذه الجبهة نهايةً قريبة بعد دفعِ «فِدية» ماليّة كبيرة وإطلاق بعض السجَناء من أصحاب الأحكام البسيطة، وذلك بهدف تخفيف الضغط الداخلي على الحكومة. وعلى الجبهات البقاعية مزيدٌ من القوّة العسكرية من الجيش اللبناني تجاه مسلّحي «داعش».
وفي هذا السياق أتَت زيارة الرئيس سعد الحريري التي هدفَت منحَ مزيدٍ من الغطاء السنّي لمحاربة المتطرّفين. لكن مِن رسائل زيارة الحريري أيضاً إعادة تظهير القوّة السياسية له في الشارع السنّي، وهي رسالةٌ للخَصم كما للحليف، وكانت معبِّرة.
وفي زيارة الحريري شيءٌ من الجهد الذاتي لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، فهو قلِقٌ على التماسك الحكومي إذا طالت فترة الشغور، ويريد إنجازَ الاستحقاق ليعودَ نهائياً إلى لبنان كرئيس جديد للحكومة، فيما أعداد الطامحين تتزايد.
وكان قد سبَقه الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو. فالمسؤول الفرنسي يَعيش تعقيدات المرحلة الأخيرة قبل ولادة الاتفاق الاميركي – الايراني، لذلك حاولَ تليينَ المواقف الداخلية بلا جدوى.
لكنّ جيرو، الديبلوماسي الخبير والمحنّك، لم يزُر لبنان مرّتين أمَلا بظهور حلّ لم يحسِن اللبنانيون يوماً إنجازَه وحدَهم، إذ يعتقد البعض أنّ القطبة المخفيّة في زيارة الموفد الفرنسي هي فتحُ حوار مباشَر مع «حزب الله» تحت ستار حلّ الأزمة الرئاسية. وهو ما يبدو منطقياً تماشياً مع حقبة التفاهم الأميركي – الإيراني.
هذا في وقتٍ تبدو فيه السعودية متمسّكةً بعدم خسارة ساحتَي اليمن ولبنان، فيما تسعى لإعادة تكوين جبهة عريضة وفق توازنات جديدة.