IMLebanon

السلطة والموت” و”الصرخة المكتومة”.. و”نهاية حكم الأسد”

 

كُتب الكثير وسيُكتب بعد، وستصدر عشرات الأفلام الوثائقية عن مسيرة طفل خجول منزو في عالمه الخاص، تحول الى حاكم ديكتاتوري مجرم قتل مئات الآلاف من شعبه تمسكاً بالسلطة، الا ان للتقريرين الفرنسيين اللذين بُثا على القناة الفرنسية الثانية (FRANCE 2) في الثاني عشر من الشهر الجاري، رسالة واضحة تماماً لا تخرج عن اطار الاعلان الرسمي لـ «وفاة» النظام الاسدي الذي حكم سوريا لاكثر من أربعين عاماً.

 

عادة ما تنتج وتبث الافلام الوثائقية الطويلة المماثلة، التي تتناول حياة بعض الحكام العرب والاجانب التاريخيين المثيرة بكل محرماتها متخطية الرقابة المسبقة، بعد سقوطهم او مقتلهم او تركهم السلطة على أثر الانقلابات الداخلية، فيما استبق التقريران الفرنسيان ترك الرئيس السوري بشار الاسد للسلطة في بلاده، معلنين نهايته بوصفه «الرئيس الشبح على رأس بلد مدمر»، ويأتي عرض التقريرين بعد انتشار المقطع الروسي المصور من القاعدة العسكرية «حميميم» والذي جرد الاسد تماما من صفته الرئاسية ولو الصورية في مرحلة بدأ الحديث الدولي الجدي عن الخطوات العملية لتخليه عن السلطة والدخول في مرحلة انتقالية برئاسة احدى الشخصيات السورية تحضيرا للانتخابات السورية العامة.

 

ساعة واربعون دقيقة اختصر خلالها الوثائقي الاول «بشار الاسد: السلطة او الموت» (Bashar Assad: le pouvoir ou la mort) للمخرج الفرنسي كريستوف ويدمان، المحطات الاساسية من حياة الاسد الطفل («مسحوق» كما وصفه الوثائقي، من شقيقته الكبرى بشرى وأخيه باسل) والمراهق والجامعي («المنحني والتافه» ذات الشخصية المنغلقة والفاقدة للثقة بالنفس)، ومن ثم الرئيس الاصلاحي ظاهريا السائر فعليا على خطى ابيه في الحكم التوتاليتاري، خاصة خلال الفترة التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولا الى تحجيم سلطته تدريجيا منذ اندلاع الثورة السورية على أثر الانتفاضات الشعبية وخسارة قواته النظامية لاكثرية المدن والاراضي السورية او عبر التدخلات العسكرية الخارجية التي سيطرت على البلاد وقرار وعمل السلطة الرسمية واقعيا. استعان التقرير بوزراء خارجية فرنسيين سابقين وصحافيين وباحثين في الشأن السوري ومبعوثين رسميين سابقين من الاليزيه الى قصر المهاجرين، كما ببعض الوزراء والرسميين السوريين المنشقين عن النظام والمنفيين الى الخارج وكذلك بأحد اصدقاء الطفولة للاسد وأحد مدرسيه الجامعيين في بريطانيا، لينتهي التقرير الاول بمقابلة مباشرة مع وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان يحلل خلالها مستقبل سوريا على ضوء النتائج السياسية والعسكرية التي افرزتها الانتفاضة حتى اليوم، بما في ذلك وضع بشار الاسد الشخصي في السلطة ونظرة العالم اليه، مستخلصا ان لا أمل يرجى من الاسد الذي امتحنته دول العالم مرارا.

 

كما يظهر التقرير الثاني «سوريا: الصرخة المكتومة» (Syrie le cri etouffe) للمخرجة الفرنسية مانون لوازو من خلال شهادات حية، سردت على مدى ساعة وعشرين دقيقة، كيفية تحول جسد المرأة الى ميدان آخر من ميادين الحرب السورية، مورست عليه أقذر الافعال وأكثرها وحشية واجراما. اكثر من 12 سيدة كشفن وجوههن واسماءهن امام الكاميرا لأول مرة، روين تجاربهن المروعة مع ذكر المناطق واسماء ضباط النظام وكل تفاصيل احتجازهن واغتصابهن.

 

يختصر الاعلامي الفرنسي لوران ديلاروس مقدمته للتقرير الاول بالقول «هي حرب بعيدة باتت حربنا جميعا»، مضيفا «هي قصة لرجل في وجهين، الوجه الاول لبشار الخجول والمطيع الذي ظهر في فرنسا خلال مقابلته الرئيسين الفرنسيين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، والوجه الثاني لبشار المرعب الديكتاتوري والبربري الذي ارتكب جرائم حرب وابادات جماعية ضد شعبه منذ سبع سنوات». طالب الطب الذي لم يكن امامه سوى القبول بمصيره الرئاسي بعد مقتل اخيه، واجه نظامه أول تحد حقيقي ومفصلي في العام 2005 حتى العام 2008 مع وصول الرئيس نيكولا ساركوزي الى الايليزيه الذي انتهج السياسة الواقعية تجاه الاسد بانفتاحه على النظام بعد العزلة الدولية التي واجهها. ليعود الى نقطة الصفر في العام 2011 مع اشتعال الثورة السورية الشعبية في وجه النظام. يتناول احد اصدقاء الاسد في الوثائقي تفاصيل شخصيته اللامبالية حيال كل ما كان يحدث من حوله، يقول حرفيا «عندما يكلمونه عن عدد الاموات الذين قتلهم هو لا يبالي هو يخلد الى النوم ملء عينيه».

 

يوثق التقرير عجز قوات النظام بالكامل عن السيطرة على الثورة، وكيف باتت بسرعة سوريا ارض الجهاد من مجموعات سنية تأخذ ثأرها من الحكم العلوي. والتدخل الايراني الفعال ماليا وعسكريا الذي لم يستطع حسم الامر سوى بعد التدخل الروسي على أثر امتناع ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما عن توجيه ضربة عسكرية الى النظام للجمه عن استخدام الاسلحة الكيماوية، وصولا الى خسارة «داعش» لآخر معاقله في مدينة الرقة. يقول لودريان في تعليقه على الوثائقي، «في اوائل ايام الثورة لم يتوقع أحد في العالم (اميركا – فرنسا – روسيا) ان يبقى الاسد متمسكا بالسلطة طيلة هذه الفترة، اعتقدناه انه سوف يتخلى عنها منذ الاشهر الاولى».

 

اليوم سيذكر التاريخ بشار الاسد على انه الرجل الذي دمر سوريا وقتلها. لم يعش اي سوري على هذه الارض وفي دمشق تحديدا (اقدم مدينة في العالم)، كما عاش من عاصر حكم بشار الاسد. حكم لن تندمل ندوب حروبه وبطشه ببساطة من ذاكرة السوريين، يصر لو دريان على ان «السوريين هم من عليهم تقرير مصيرهم بيدهم في انتخابات عامة تحت اشراف دولي، والشروع الى مصالحة وطنية تمنع التقاتل الدموي من جديد»، ويضيف أنه من المؤكد ان لا مكان للاسد في المشهد السوري الجديد ولكن الى حينه «فانه موجود، انه بربري ولكنه موجود»، كلام لودريان كان سبق ان أكده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مقابلة له في التاسع من كانون الاول على القناة الفرنسية الثانية، قائلا «علينا التباحث مع الأسد الذي يطالب العديد من المعارضين السوريين بتنحيه»، مشددا على أن هذا لن يعفي الرئيس السوري المتهم بارتكاب تجاوزات عدة «من أن يحاسب على جرائمه أمام شعبه وأمام القضاء الدولي».

 

يكفي مشاهدة شهادات النساء السوريات في الوثائقي الفرنسي الثاني، اللواتي تعرضن للاغتصاب والتعذيب في أقبية السجون الاسدية للتأكد من ضرورة الاقدام على هذه الخطوة وبسرعة قصوى، وكذلك الاطلاع على الارقام التي لخصتها التقارير الفرنسية التي بثت في نهاية الوثائقي الاول عن ارقام القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين والمهاجرين والمفقودين السوريين والدمار الشامل للمدن والاحياء والبنى التحتية، وقائع تؤكد وتبرهن ان المنظومة الاسدية التي حكمت سوريا أكثر من أربعة عقود باتت ساقطة حكما، هي من عالم ولى عن هذه الارض الى غير رجعة، فلن تشفع فيه صورة رئيس محاصر في قصره ومسلوب الارادة والقرار حتى لو بقي على كرسيه لسنين وسنين قادمة.