IMLebanon

السلطة والحياة في قصرَيْن عربيّين ملكي و”ماركسي”

من النصوص الأكثر تشويقاً لمزاجي في القراءة، والأرجح لأمزجة عديدة غيري تهتم بفئة المذكّرات، كتابان بين الكتب التي قرأتها مؤخّرا: “سيرة أمير مُبعَد – المغرب لناظره قريب” للأمير مولاي هشام العلوي ابن عم ملك المغرب الحالي محمد السادس وابن شقيق الملك السابق الحسن الثاني وكتاب “جنوب اليمن في حكم اليسار – شهادة شخصية” للدكتور فواز طرابلسي.

الكتابان صدرا حديثا في هذه الأسابيع الأخيرة من العام 2015. الأول كترجمة باللغة العربية من “دار الجديد” نقلا عن الطبعة الفرنسية عام 2014 والثاني من منشورات “رياض نجيب الريِّس”. لكني لم أخترْهما للكتابة عنهما بسبب استمتاعي بقراءتهما فقط وإنما بسبب كونهما يعرضان تجربة ممارسة سلطة سياسية وحكم دولة لا من بلدين مختلفين فحسب بل من “عالمين” سلطويّين سياسيّيْن اجتماعيّين اقتصاديّين مختلفين. المملكة المغربية منظورا إليها من بعض أعلى مراتب وحميميات سلطتها العائلية وقصرها الملكي، ودولة جنوب اليمن منظورا إليها من تجربة مثقف سياسي أتيح له لأسباب عديدة شخصية وحزبية وسياسية أن يكون على صلة وثيقة بمعظم القيادات العليا التي تعاقبت على حكمها حتى زوالها في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

الأمير هشام كان ابن شقيق الملك الذي سيحظى بحياة مشتركة في كل شيء مع ابن الملك الذي سيصبح ملكا. والرفيق فواز كان صديق “الملوك الجدد” في جمهورية حكمها قوميون عرب أصبحوا ماركسيين بعد العام 1967.

الرفاق الذين يخبرنا فواز طرابلسي، من خلال حوار مع السيدة الناشطة اليمنية بشرى المقطري، والتي يعترف لها فواز بفضلها في الإلحاح على استخراج معلوماته وتنظيمها ليحرر النص لاحقاً… يخبرنا متألماً ولكنْ صريحاً كيف تَتابع قتْلُهُمْ لبعضهم البعض على مدى عقدين بعنف كانوا لا يتورّعون فيه عن إقحام أعداد كبيرة من الكوادر والضباط والجنود والقبائل في الصراعات المنفجرة بينهم والتي لم تتوقف منذ التأسيس حتى زوال الدولة الجنوبية في وحدة “إرادية” ثم قسرية مع دولة الشمال اليمني.

أما الأمير وهو يعرض أسرار علاقات القصر وتصاعد قوة وقسوة الملك الحسن الثاني أمام التحديات الكبيرة التي واجهته تدريجيا يستفيض في ما لا يمكن تلافي أن يصبح جذابا جدا كقصص ألف ليلة وليلة أحيانا رغم كل رصانة الأمير في العرض ومسؤوليته في تقديم المعلومات العائلية عن الملك أو المتعلقة بالحاشية ورجال الدولة.

من الصعب وجود كاتب ذكي لا تكون كتابته موسومة بحس سخرية ما قليل أو كثير. لكن من قلب السحر الأسود للسلطة فإن السخرية تحضر في إطار مفاجئ من علاقات قوة. الكاتبان يستجمعان هذه الميزة، رغم المهمة الجادة التي يرسمانها لنفسيهما وهي إلى المذكرات، محاولة تحليل البلد السوسيولوجي والاقتصادي. فالكتابان بالنتيجة كتابا تجربة سلطوية لكن المثقف في كل منهما لا يرتضي أن يهمل الجانب المثالي من كتابه. رسالة الكتاب الأميري من هذه الناحية هي نقد عدم التطور الديموقراطي لبلاده ومن ضمنه الفساد وتقديم ذلك على أنه سبب حاسم لانشقاقه شخصيا. أما الكتاب الرفاقي فيمتزج فيه نقد أخطاء “التطبيق” الاشتراكي العزيز دائما وإلى اليوم على فواز طرابلسي بنقد العنف الفالت من عقاله.

ليست مهمتي هنا قطعا محاولة “اختصار” الكتابين وإنما السعي ما أمكن للمقارنة بينهما. فإذا كانت الفوارق واضحة خصوصا في الأصول الاجتماعية للسلطة القائمة وهي أصول يحاول الرفيق التفصيل فيها إلى حد تسمية الجذر الطبقي والجهوي لبعض كبار قياديي اليمن الجنوبي ومنهم من الشريحة الأدنى في المجتمع ( الخدم) بينما آخرون من فئات دون الوسطى وأو أدنى شرائح الطبقة الوسطى. أما في كتاب الأمير فنحن بشكلٍ تلقائي أمام الطبقات التقليدية العليا (المخزن المغربي) بكل صراعاتها في القصر والدولة حول الملك وأحيانا ضد الملك.

إذا كان الرفيق فواز حاسما على مدى الكتاب في كراهية واحتقارالرئيس اليمني الشمالي علي عبدالله صالح الذي هو شخصية مهمة في العلاقات والصراعات بين قادة اليمن الجنوبي بعد العام 1979، القادة الذين ينضح الكتاب بود فواز تجاههم، فإن مولاي هشام الذي يكتب بالنتيجة كتابا معظمه عن عمه الملك الحسن الثاني يُظهِر هذه العلاقة بأنها علاقة حب وكراهية في آن معا كأن للرواية بطلها الوحيد عمليا وهو الملك الحسن لاسيما حين يتعلق الأمر بنوع علاقة الحسن مع والد الكاتب الأمير عبدالله. إلا أن ما يلفت أن والدة مولاي هشام السيدة لمياء رياض الصلح التي كانت نقدية جدا للحسن الثاني ستصبح في عهد الملك الابن مع أبنائها، باستثنائه، موالية تماما للقصر كما يصرّح الكاتب بنوع من الأسى.

يقدم الأمير نفسه كرجل أعمال لمشاريع ومقاولات كبيرة ولاسيما عبر بعض دول الخليج وهو لا يبدو من العرض أنه يجد أي مشكلة في هذا الدور داخل المغرب وخارجه. إنه جزء من وضعه “الطبيعي” كما يقدمه مثلما يقدم وجهه الإصلاحي النقدي وأحيانا الراديكالي في النقد.

مع الرفيق فواز تمر سيرة الأعمال عبر اليمن الجنوبي بصفتها محاولة عابرة وخاسرة (بالمعنى المالي أيضا) ليست من طبائع الشخص الذي لم يخلق ليكون رجل أعمال مع أن أصوله الاجتماعية، أي أصول عائلته أعلى قطعا من معظم حكام اليمن الجنوبي الماركسيين الذين صادقهم وصادقوه وراقبهم يسقطون واحدا تلو الآخر على يد بعضهم البعض.

يلفتني في كتاب فواز طرابلسي أنه لم يأتِ على سيرة التركيب المذهبي لليمن إلا مرة واحدة في الصفحة 208 (إذا لم أكن مخطئاً). وهذا أمر أفهمه وأتفهمه لأنه بمعزل عن تطور الصراع المذهبي في يمن ما بعد تجربة فواز طرابلسي وهي تمتد بين الستينات وأوائل التسعينات من القرن المنصرم، فإن العامل المذهبي لم يكن فعلا أساسياً فيها خصوصا من موقعه في اليمن الجنوبي.

ليست الأسرار السياسية أو التي يمكن اعتبارها أسرارً قليلة في الكتابين . على سبيل المثال يورد الأمير هشام أنه في العام 1993 قال له العاهل السعودي فهد في جلسة خاصة كان يحاول التوسط فيها بين الملك الأردني حسين وبينه، قال له:” لماذا يصر الحسين على اتخاذ لقب ” الشريف”؟ أليس للتذكير بنسبه وتاريخ عائلته ومطامعه في حكم مكة المكرّمة؟ هل يريد أن يصبح أميراً على الأماكن المقدسة” ( صفحة 211).

ينقل فواز طرابلسي عن علي عنتر وزير الدفاع اليمني الجنوبي الذي قتل لاحقا بعد قتل عبد الفتاح اسماعيل الذي كان ساهم في قتل سالم ربيع علي إلخ… يذكر أن عنتر قال لمحسن ابراهيم وله “متباهيا” أنه “سوف يحكم الجزيرة العربية برمتها وتكون له أجمل النساء الأوروبيات الشقراوات اللاتي هن الآن من نصيب أمراء ومشايخ وملوك النفط”( صفحة 112).

إذ يعرض الأمير درجة التعالي التي بلغها الجنرال أوفقير حتى على والده الأمير عبدالله وهو الجنرال الذي سينقلب لاحقاً على الملك الحسن الثاني في واحدة من أشهر مؤامرات القصور في العالم المعاصر، يعرض بالمقابل كيف كان والده على صلة حوارية ببعض قادة المعارضة اليسارية المحترمين فيما سيوضح الرفيق كيف نظمت مخابرات اليمن الجنوبي عملية اغتيال رئيس شمالي باشراف مباشر من رئيس الدولة الجنوبية. وكيف على مستوى آخر انقسم قادة الجنوب بين الولاء للصين والولاء للاتحاد السوفياتي لكن أحد أهم العوامل التي جعلت الجناح “الماوي” ينهزم هو أن الصين الشعبية نفسها لم تكن مهتمة إلا جزئيا باليمن الجنوبي في وقت بدأت تنفتح أمامها علاقات اقتصادية مع الشمال والعالم العربي والخليجي!

سنرى بالنتيجة كيف تُحوِّل السياسةُ المثقفَ فواز إلى “أمير” في اليمن الجنوبي من حيث كونه في قلب البلاط الماركسي، وكيف تُحوِّل المعارضةُ الأمير هشام إلى مثقف سياسي معارض خارج البلاط.

لكن وتداركاً للالتباس: مثلما يعج كتاب الأمير المعارض للسلطة بالولاء للدولة يعج كتاب الرفيق الموالي للدولة بنقد السلطة. لقد حاول الإثنان بلا ريب أن يسردا بحرية ما أمكن. كل ما يعرفه فواز طرابلسي كما قال لي، وأقل مما يعرفه هشام العلوي بالتأكيد وإن كان ما رواه ليس قليلا أبدا. والعملان إضاءة حقيقية عامة وشخصية على بيئتين سلطويتين عربيتين.

لو رحت، في نهاية هذه العجالة، أسأل ما الذي يجمع بين هاتين التجربتين وهو سؤال صعب وبسيط في آنٍ معا لقلت: الثقافة الاسلامية العربية وقوتها في رموز واعتبارات السلوك العام والشخصي. لا أقصد هنا بالثقافة الاسلامية أي تشابه مع الثقافة الأصولية و إنما العكس: وجهان لإسلام موروث كلتا السلطتين تحترمه وتخالفه في آن معا! بل تحترمه وتنقضه في آن معا. الحسن الخليفة، أمير المؤمنين لدى المسلمين المغاربة وبقايا يساريي اليمن الجنوبي الذين انقرضت يساريتهم ولم تنقرض جنوبيتهم.