تعيش السلطة السياسية في عالم من التخلّي وتقاذف المسؤوليات، فيما تواصل الأزمة اشتدادها. كان يُفترض أن يترك التعميم الصادر عن مصرف لبنان لتمويل استيراد المشتقّات النفطية والدواء والقمح أثراً إيجابياً، إلا أن السوق تعاملت معه على أنه اعتراف بوجود سعرين لليرة: واحد للسلع المموّلة من مصرف لبنان والثاني لباقي السلع. هذا الأمر خلق بلبلة وهلعاً أدّيا إلى زيادة الطلب على الدولار وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار في السوق الموازية، ما يهدّد باندلاع موجة تضخّم أسعار قد تدفع في اتجاه تسارع وتيرة إغلاق المؤسّسات وصرف الموظفين
تتعامل السلطة السياسية باستخفاف شديد مع اعتراف مصرف لبنان بوجود سعرين لصرف الليرة مقابل الدولار. وبدلاً من تخصيص جلسة لمجلس الوزراء لهذه الأزمة لدرس السيناريوهات والخيارات المتاحة، طرح رئيس الجمهورية ميشال عون هذه المسألة في نهاية جلسة أمس وتفاعل معها وزير الاقتصاد منصور بطيش انطلاقاً من التذكير بنصوص قانونية، تفرض عقوبات على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية. بدا من كلام بطيش أن المشكلة بسيطة وتقتصر على بضعة مخالفين يجب زجّهم في السجن. كذلك بدا الأمر من خلال كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كلمته أمس أمام المنتدى السنوي التاسع للمسؤولية الاجتماعية للشركات، مشيراً إلى أن ”أسواق الصرّافين والأوراق النقدية بالدولار هي أسواق لا يتدخل فيها مصرف لبنان إلا من ناحية التنظيم».
تصريح سلامة ومداولات الوزراء في الجلسة أمس، أوحيا بأن السلطة السياسية تدفع في اتجاه تقنين توافر السلع ورفع أسعارها سواء أكانت غذائية أم غيرها من السلع غير المشمولة بتعميم مصرف لبنان، الذي خصّص مستوردي المشتقّات النفطية وتجار الدواء والقمح بتمويل الدولارات اللازمة للاستيراد. المشكلة أن توافر النقد الأجنبي في سوق تعتمد بشكل أساسي وبقيمة 20 مليار دولار على استيراد السلع المستهلكة محلياً، لا يمكن مناقشتها بشكل هامشي واندفاع سلامة إلى التخلّي عن مسؤوليته المحدّدة في المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تنصّ على أن مَهمّة مصرف لبنان هي ”المحافظة على النقد لتأمين أساس نموّ اقتصادي واجتماعي دائم، وتتضمن بشكل خاص: المحافظة على سلامة النقد اللبناني، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي وتطوير السوق النقدية والمالية».
إذاً، الحفاظ على سلامة النقد اللبناني أول مَهمة لدى مصرف لبنان، وهي المَهمة التي يتخلّى عنها سلامة اليوم في ظل ازدواجية سوق سعر الصرف أحدهما بين مصرف لبنان والمصارف، والثاني بين الصرّافين والشركات والأفراد.
هذا الأمر ليس حدثاً عابراً في النموذج الاقتصادي اللبناني، بل هو حدث كبير وخطير جداً. فالمؤشرات السوقية التي يعبّر عنها من خلال ارتفاع سعر فائدة الانتربنك، وارتفاع سعر الصرف لدى الصرّافين إلى 1600 ليرة مقابل الدولار، تأتي بعد بضعة أيام على صدور تعميم من مصرف لبنان ينظّم فيه عمليات تمويل استيراد المشتقات النفطية والدواء والقمح بالدولارات، ما يعني أن التعميم لم تكن له مفاعيل إيجابية على الأسواق، بل على العكس ولّد ارتدادات متباينة في السوق انطلاقاً من تفسير واحد لمضمون التعميم الذي ”يقرّ ضمنياً بوجود سوقين لسعر الصرف» وفق الوزير السابق شربل نحاس. لذا، فإنه من الطبيعي أن يكون هناك مستفيدون من التعميم، أي المشمولون فيه من مستوردي المازوت والغاز والبنزين والدواء والقمح، وأن يكون هناك استياء عند غير المشمولين فيه من مستوردي السلع والتجار المرتبطين بهم محلياً، سواء تجار نصف الجملة وباعة التجزئة، كما أنه في حال استوعب عامة الناس المضمون الفعلي للتعميم، فإنهم سيقدّرون بأن هذا الإجراء الكبير والخطير لا يؤخذ في حالات الاستقرار، ما يولّد لديهم شعوراً بانعدام الأمان ويلجأون إلى أدوات دفاعية من أبرزها تحويل مدّخراتهم لدى المصارف، متى استحقّت، من الليرة إلى الدولار.
المشكلة التي ستظهر مع مرور الوقت وارتفاع أسعار الصرف في السوق الموازية، أي لدى الصرّافين، هي أسعار السلع غير المشمولة بالتعميم. وعلى افتراض أن التعميم نال رضى مستوردي المشتقات النفطية والدواء والقمح، إلا أنه لا يشمل مستوردي السلع الغذائية الأخرى ومستوردي المواد الأوّلية الخاصة بالصناعة المحلية، ولا يشمل مستوردي الخضار والفاكهة ومئات السلع الأخرى المستوردة من الخارج. ”إذا كان الصناعي أو أي تاجر آخر، مضطراً أن يشتري الدولارات اللازمة لتسديد ثمن مستورداته من الصرّافين بالسعر المتداول، فإن جزءاً من كلفته ارتفع، وبالتالي فهو سيعمد إلى رفع أسعار السلعة التي ينتجها أو يبيعها»، يقول أحد الصناعيين. وهذا الأمر كان قد أشار إليه بشكل واضح رئيس جمعية الصناعيين فادي الجميل الذي لفت إلى أن ”بعض المصانع تبيع إنتاجها بالليرة اللبنانية وهي تستورد موادّها الأوّلية بالعملات الصعبة، وبالتالي هي بحاجة إلى أن تتأمّن لها الدولارات، وإلا ستضطر إلى شراء العملة من الصرّافين بأسعار مرتفعة ما سيزيد من كلفة إنتاجها».
وما يعزّز مسار ارتفاع السلع أن باقي حلقات سلاسل البيع متخوّفة من حصول هذا الأمر في ظل وجود سعرين لليرة في لبنان. فبحسب رئيس نقابة أصحاب السوبرماركت نبيل فهد ”إن المورّدين يُصدرون فواتير السلع المبيعة للسوبرماركت بالدولار فيما نحن نبيع بالليرة، وهم حتى الآن، يوافقون على تسديد الفواتير بالليرة على أساس سعر صرف يصل إلى 1518 ليرة مقابل الدولار، إلا أنه في حال توقفت المصارف عن تمويل المورّدين بالدولارات بالسعر المحدّد من مصرف لبنان واضطررنا أن نشتري الدولار من السوق غير النظامية بالأسعار المتداولة، فإن أسعار السلع سترتفع بشكل أكيد، وخصوصاً أن إيرادات البيع بالدولار كانت تشكّل 40% من مجمل المبيعات، إلا أنها انخفضت إلى 3% كحدّ أقصى اليوم».
المورّدون «قلقون» من موجة تضخّم الأسعار
ارتدادات وجود سوقين لسعر الصرف تمتدّ نحو قدرة الشركات على الاستمرار. فإلى جانب ارتفاع كلفة الإنتاج، يبدو أن الأعباء ستزداد على الشركات التي تضطر أن تشتري الدولارات من السوق الموازية، ما يعني أنها ستعمد إلى إجراءات تخفّف من أكلافها التي ارتفعت أيضاً في ظل ضعف الطلب الاستهلاكي والأجواء السلبية فوق لبنان. من أبرز الإجراءات التي يلجأ إليها أصحاب العمل عادة، هي تقليص فاتورة الأجور والرواتب مروراً بالصرف النهائي للعاملين ووصولاً إلى الإغلاق الكامل. هذا يعني أن الشركات والمؤسّسات التي عمد عدد كبير منها إلى تقليص رواتب العاملين لديه أو صرف قسم منهم بسبب انكماش النشاط الاقتصادي في لبنان، سيلجأ إلى الإقفال نهائياً في حال ازدادت الأعباء عليه سواء بسبب اضطراره شراء الدولارات من السوق الموازية أم لأسباب مماثلة.
في النتيجة، سيتحول الأمر تدريجياً إلى كارثة اجتماعية – اقتصادية، فتزداد معدّلات البطالة، وتنخفض القدرة الشرائية وتأكل المدّخرات المتواضعة للطبقة العاملة وسترتفع كلفة الاستشفاء… هذا أحد السيناريوهات المتوقّعة في حال استمرّ وجود سوقين لسعر الصرف.
نقابة الصرّافين: لسنا سبب شحّ الدولارات
أصدرت نقابة الصرّافين بياناً أمس تشير فيه إلى أنه منذ بداية أزمة شحّ الدولار في السوق اللبنانية ”دأبت بعض الجهات على تحميل الصرّافين نتيجة الفروقات التي تم تداولها في سعر الصرف، كما استدعاء عدد من الصرّافين للتحقيق معهم، ما يوحي بأن هؤلاء الصرّافين هم سبب الأزمة، علماً بأن قانون النقد والتسليف يولي السلطات النقدية مَهمة المحافظة على سلامة النقد الوطني، والتي لها وحدها إمكانية تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية وتثبيت هذا السعر عن طريق إيجاد التوازن بين العرض والطلب». وأشارت النقابة إلى أنها ترفض ”جملة وتفصيلاً تحميل الصرّافين نتيجة هبوط سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي والعملات الاجنبية النقدية، إذ ليست لهم القدرة والإمكانية للتأثير على الأسعار، ومصدرهم الوحيد لشراء الدولار الأميركي والعملات الأجنبية النقدية مقابل الليرة، هو المواطنون أنفسهم. أما مسؤولية تأمين احتياجات كل القطاعات الاقتصادية فتقع على عاتق المصارف المحلية التي اعتادت على أداء هذا الواجب، فمن أولويات مَهامها إيجاد التوازن بين العرض والطلب… هل استطاع الصرّافون زيادة أسعار العملات الأجنبية قرشاً واحداً طيلة عشرين عاماً من ثبات السعر، حين كانت المصارف تؤمّن احتياجات كل القطاعات الاقتصادية من دون استثناء؟».