حكاية فؤاد شهاب وميشال عون ولويس أبو شرف
تمتد من العاصمتين الأولى والثانية الى الإنقلابات والمواقف
في بدايات عهده، قام الرئيس فؤاد شهاب بزيارته الأولى الى عاصمة الشمال، بغية تعزيز مكانة رئيس حكومة العهد الرئيس رشيد كرامي، وتكريس الإعتراف بدور سيد العهد الإستقلالي المرحوم عبد الحميد كرامي.
وفي باحة تمثال الزعيم الإستقلالي، المرحوم عبد الحميد، كلّف رئيس مجلس النواب، خطيب البرلمان الأول لويس أبو شرف، القاء كلمة المجلس النيابي، ومن ضمنها قصيدة عصماء للنائب الذي تعود أن يعتلي المنابر لإلقاء قصيدة لا يجيدها أحد سواه، ارتجالا وسرعة بديهة. وتعبيراً عن إرادة نيابية وفرحة سياسية، تمرس النائب الكتائبي بلهجته المميزة في التعبير عن مضامينها الفكرية والأدبية.
وظلت، على مدى نصف قرن، قصيدة لويس أبو شرف وخطبته مثل قصيدة اليتيمة في الشعر العربي، تحفة أدبية احتفظ بالجزء الأكبر منها الأستاذ الكبير محمود الأدهمي صاحب ورئيس تحرير جريدة الإنشاء الطرابلسية. وظل انجال لويس أبو شرف طوال عشرة عقود يبحثون عمن في حوزته معظم قصيدة وكلمة لويس أبو شرف المرتجلة في ذلك الحفل التاريخي، خصوصاً نجله المحامي مارون أبو شرف للعثور على اجزاء من اليتيمة الثانية في الشعر العربي، على الرغم من ان العائلة الكريمة، وهي تضم أفذاذاً من الأدباء والشعراء يبحثون عن اليتيمة الجديدة في الشعر العربي، ولا يعثرون على شيء.
ظل لويس أبو شرف عاشقاً للكلمة المرتجلة والشعر الراقي، ولا سيما في حقبة الثمانينات، يوم قيل ان السيدة العذراء برمت وجهها من البحر عند الغَسَق، الى الجبل الرابض قرب حريصا، لان لويس أبو شرف الخطيب والشاعر والأديب، كان يرتجل كلماته في إبان المعركة الإنتخابية التي قادها الشيخ بيار الجميل في انتخابات نيابية غير معهودة، وكانت السبب الأساسي في كسب معركة الحلف الشهيرة، الى ان اصابته رصاصة طائشة، خلال الحرب على لبنان، وهو واقف على شرفة منزله في منطقة الاشرفية المجاورة لفندق قريب.
وعلى الرغم من شهرته الأدبية والشعرية، ظل لويس أبو شرف يواظب على تدريس مادة الأدب العربي في مدرسة القلبين الأقدسين في حدث بيروت، وكان المؤرخ الكبير يوسف ابراهيم يزبك يردد دائماً، ان لبنان الكبير هو لبنان لويس أبو شرف في العصر الحديث، كما هو لُبنان الكبير في زمان جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.
وفي حقبة السبعينات، برز لويس أبو شرف في الميدان النيابي، كنائب بارز عن قضايا التعليم والتدريس، واشتهر كنائب ممارس في الذود عن حقوق المعلمين قبل امتداد يد التقسيم الى النقابة الواحدة في عصر النقيب انطوان السبعلاني والأمين العام عباس قاسم.
وفي خضم ذلك بادر الرئيس تقي الدين الصلح، عندما كان يرئس مؤتمراً عربياً في القاهرة، مع وزير الإعلام ادمون رزق ووزير الخارجية الراحل فؤاد نفاع، الى القول ان الكتائب، تحبها أو لا تحبها، تستطيع أن تنكر انها أعطت لبنان فطاحل في الخطابة والشعر، كالاستاذ لويس أبو شرف وأدمون رزق، الا ان هذا الأخير اعتذر عن هذا التعبير، وقال في فندق شيبرد في العاصمة المصرية، إن لويس أبو شرف هو استاذنا جميعاً، ولا تصح مقارنته بخطيب آخر أو بشاعر ثان.
رحل لويس أبو شرف، وبقي له في الشارع الذي استشهد فيه لافتة عليها عبارة واحدة تذكي من حرارة الأدب والكيان اللبناني عنوانها المقتضب شارع لويس أبو شرف.
في العام ١٩٧٠، ترشح ادمون رزق للإنتخابات في دائرته الإنتخابية جزين، ضد لائحة ضمت جبار المنطقة جان عزيز الذي لم يكن يجاريه أحد في زعامته السياسية والحزبية.
الا ان جان عزيز لم يفز في الإنتخابات وحل مكانه ادمون رزق. وعندما كان زعماء جزين يجتمعون في الاشرفية، لمعالجة أزمة المنطقة، كان ادمون رزق يصمت ويصمت الآخرون، ويترك الكلام لجبار جزين جان عزيز ويقول ان لا أحد يتقدم عليه في الكلام، وهو صاحب الرأي الأول في منطقة مدينة لزعامته السياسية.
الا انه بعد عزوف فؤاد شهاب عن الترشح للرئاسة، وبعد بروز إسم شارل حلو ردد فيليب تقلا وفؤاد بطرس اسم صديقهما باعتبار ان شارل حلو يحظى باعجاب فؤاد شهاب وتقديره. ويقال ان هذا الأخير، طالما استرعى انتباهه في جلسات مجلس الوزراء وخارجه الأسلوب الذي كان شارل حلو يتحدث به، ولا سيما استعمال المفردات المنسوبة الى الرؤساء السابقين للجمهورية، مما ولَّد لديه انطباعات ايجابية عنه. الا ان شارل حلو لم يكن الاسم الوحيد المتداول لاحتلال المنصب الكبير، فقد كانت هناك اسماء أخرى مثل وزير الخارجية فؤاد عمون والأمير عبد العزيز شهاب، وريمون اده وسليمان فرنجيه، وبيار الجميل وجميل لحود وجان عزيز من داخل مجلس النواب، والفريد نقاش من خارجه.
وعلى الرغم من ان ضباط الشعبة الثانية كان لهم موقف مغاير جاء من يذكي ترشيح فؤاد عمون أمام الرئيس شهاب والذي سأل: من أين هو فؤاد عمون، وجاء الجواب انه من دير القمر.
وعقب: أي من منطقة كميل شمعون وسأل عن علاقته بكميل شمعون فرد فؤاد بطرس: أسوأ علاقة وخصومة حادة. سأل فؤاد شهاب: عمن يكون حليفه في المنطقة، فأجاب كمال جنبلاط.
وفي ذكرى رحيل الأديب والشاعر الكبير والمربي المثالي للاجيال لويس ابوشرف، انبرى كبار رجالات الفكر في لبنان، الى تعداد ما تركه للأجيال من آثار ومآثر، وعبر كل منهم عن تقديره لما قدمه طوال حياته من عطاءات ومكرمات.
كانت هذه العبارات تتناثر في ذكرى عيد الفطر السعيد لدى الطوائف الإسلامية، لان الأعياد المسيحية والإسلامية على السواء تجمع ولا تفرّق، وتكون مناسبة جليلة لرأب الصدع بين أبناء الأسرة الواحدة أحياناً، على الرغم من ان لويس أبو شرف كان ذا لون سياسي مميز، الا ان لونه اللبناني لا يتغيّر.
ولذلك، فقد دأبت المجالس النيابية، على اعتباره خطيب البرلمان الأوحد، لما تتجمع بين سطوره من محبة، كأنها شلالات المحبة في جزين، الامر الذي حمل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على القول لزواره ان لكل عيد بهجته، وان البهجة تحمل الأمل في قيامة هذا الوطن.
وهذا ما دعا رئيس البلاد الى التضامن ومقاومة مخاطر المخدرات لمكافحة سوء استعمالها والإتجار غير المشروع بها.
وقال العماد عون ان الفرصة متاحة أمام الجميع، لكسر العداء للناس.
طبعاً، كان اقرار القانون الانتخابي على قاعدة النسبية فرصة نادرة أمام اللبنانيين لتجسيد وحدة الرأي، على الرغم من حرص الجميع على تجويد القانون، لكن مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان قال انه يرى في القانون الانتخاب ظاهرة جيدة، ونتوسم خيراً لتعمل الحكومة بجدّ واخلاص لمعالجة القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، على أمل أن يكون اللقاء التشاوري الذي جرى في القصر الجمهوري في بعبدا فسحة أمل كبيرة وبشرى لإعادة بناء الدولة الوطنية والنهوض بمؤسساتها العامة لخدمة أبنائها من دون تمييز.
ورحب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بما قاله مفتي الجمهورية وحذا حذوه شيخ العلماء الموحدين الدروز، ذاكراً ان اللبنانيين كانت لهم كلمة واحدة في هذه المناسبة هي المصالحة الجامعة للجميع.
والتركيز على العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية، هي من طبيعة حياة الشعب، ومن طبائع الأصالة السياسية في بلد واحد وفي مناسبة مشتركة عند الجميع.
وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري، ان عيد الفطر السعيد، كان مظلة محبة ووئام خيّمت فوق رؤوس الجميع، إدراكاً منهم ان اللبنانيين قد يختلفون على الأمور الصغيرة، لكنهم يتوافقون على الأمور الكبيرة، لان رائدهم الوطن الواحد، لا القضايا الصغيرة.
وشدد الرئيس نبيه بري على ان عودة السادة النواب من أسفارهم خلال فرصة العيد، ستعيد بلورة وحدة الجمهورية الواحدة، فوق رؤوس الشعب الواحد.
وفي رأي رئيس مجلس النواب، ان من حق أعضاء السلطة الإشتراعية الإجتهاد في إدراك مقتضيات الوحدة بين اللبنانيين إلا ان وحدة الشعب تحت مظلة الدستور والقانون تبقى الرائدة والأمل في صناعة دستور وطن يقوم على المحبة على الارادة في التنوع السياسي والحضاري، لأن من خصوصيات هذا الشعب، انه يتوافق بعد كل اختلاف في الرأي، على الوحدة في الرأي والرؤية السياسية.
يُروى ان الكاردينال المعوشي، عندما رغب في زيارة الولايات المتحدة الأميركية، طلب من القاصد الرسولي في واشنطن، أن يحمل الى الرئيس الأميركي يومئذ جون كينيدي رغبته في الانفراد به، ولو لوقت قصير، الا ان رئيس البيت الأبيض أوضح لموفد قداسة الحبر الأعظم، انه ليس في الدستور ما يتيح له استقبال رجالات الطوائف ولا يجب أن يفتح له ولمن بعده هذا الحساب.
الا ان المستشار السياسي للبيت الأبيض أفتى بأن يصطحب الرئيس كينيدي البطريرك الماروني الى الحديقة التي زرعت فيها أرزة لبنانية، وان تتاح للكاردينال المعوشي لحظات قصيرة يعبّر خلالها عما يريد التعبير عنه خلال تلك الجولة العابرة للوقت.
وفي الطريق بين البيت الأبيض وحديقة القصر الرئاسي، طلب الكاردينال المعوشي من الرئيس كينيدي عدم تجديد ولاية الرئيس فؤاد شهاب في العام ١٩٦٤، ورافق ذلك اتصال عاجل من القائم بالأعمال في واشنطن سهيل شماس ارسال السفير اللبناني الجديد الى واشنطن، ليكون حاضراً في أثناء استقبال الرئيس الأميركي الكاثوليكي للمرة الأولى رئيس الجمهورية الماروني ولو على الماشي.
وقد برر الكاردينال المعوشي طلبه، بأن الدولة الفرنسية لم تعد الأم الحنون للبنان، وان هذا الدور انتقل الى الدولة الأميركية.
وفي كتابه جمهورية فؤاد شهاب يروي كاتبه نقولا ناصيف بأن هناك من حضر الى بكركي في ٢٣ نيسان ١٩٧٣، حاملا خبر وفاة الرئيس اللبناني، ويومئذ رغب البطريرك المعوشي في أن يذهب الى التعزية برحيل فؤاد شهاب بزيارة منزله والصلاة على روحه، وهو مسجى في سريره، رافضاً ترؤس المأتم الرسمي لوداعه في كاتدرائية القديس مار جرجس في وسط بيروت، لكنه ما لبث ان استجاب لإلحاح نائبه المطران نصرالله صفير على ضرورة احترام تقليد دائم، هو ترؤس البطاركة الموارنة الصلاة لأرواح رؤساء الجمهورية المتوفين.
وكان على البطريرك بولس المعوشي في اليوم التالي الواقع فيه ٢٦ نيسان، أن يقرأ من على المذبح، في حضور السفير البابوي الفريد بروتيارا رقيماً بطريركياً امتنع عن كتابته، وناط الامر بالمطران صفير، تفادياً لإحراج لا يريد الوقوع فيه.
اإلا أن القضية التي شغلت أركان السلطة في عهد الرئيس فؤاد شهاب كانت المؤامرة الفاشلة للانقلاب على حكم فؤاد شهاب، ذلك أن وزير العدل في السلطة فؤاد بطرس كان يعارض تصرفات قادة الشعبة الثانية ضد السياسيين، ولم يرق له تصرف العسكريين المناوىء للسلطة السياسية، وهذا ما تجلى خلال معارضته لتصرفات القادة في المكتب الثاني.
ويقال، كما في كتاب جمهورية فؤاد شهاب ان ممارسات العسكريين لانتزاع اعترافات من القوميين حملت فؤاد شهاب على التنديد بما فعلوه ضد السياسيين، وهو ما لاقى تعاطفاً سياسياً من قبل رئيس الجمهورية. استمرت محاكمة قيادة الحزب السوري القومي الإجتماعي شهوراً طويلة، الى أن أصدرت محكمة التمييز العسكرية في ١٥ تشرين الثاني ١٩٦٣ احكاماً مبرمة بالاكثرية، على اثر تحفظ رئيس المحكمة القاضي اميل أبو خير عن وصف محاولة الإنقلاب بالجريمة العادية، متشبثاً بوجهة نظر القضاة العسكريين وسلم بها رئيس الجمهورية، وهي أن الجريمة سياسية بغية اسقاط أحكام الإعدام التي طاولت العسكريين الثلاثة فؤاد عوض، شوقي خيرالله وعلي الحاج حسن وقياديين بارزين في الحزب هم رئيسه الدكتور عبدالله سعاده والنقيب محمد البعلبكي وبشير عيد.
ويقال ان القاضي اميل أبو خير المشهود له باستقامته وثقافته العسكرية كان اختياراً شخصياً لوزير العدل فؤاد بطرس ليرئس محكمة التمييز العسكرية.
في نهاية المطاف يورد كتاب جمهورية فؤاد شهاب ان هذا الاخير رفض في ٢٠ أيلول ١٩٦٤ مرسوماً أبطل عقوبة الإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة.
هل كان الرئيس فؤاد بطرس، معجباً بالوزير فؤاد بطرس أم مؤمنا بنزاهته وجدارته.
تعرف فؤاد شهاب بالاستاذ فؤاد بطرس قبل نصف قرن، عندما رافق، وهو قائد للجيش اللبناني وزير الدفاع مجيد ارسلان، واعترض كقاض في المحكمة، على سؤال وجهه اليه وزير الدفاع.
وعندما استقال العميد ريمون إده من الحكومة الرباعية برئاسة الرئيس الشهيد رشيد كرامي، سأل الاستاذ الياس سركيس ان يبحث له عن شخص اسمه فؤاد بطرس كان قاضياً في محكمة عندما كان قائداً للجيش.
وبعد جهد نجح الياس سركيس في العثور على المحامي فؤاد بطرس والتقيا في مقهى يقع في فرن الشباك وطلب منه البقاء في منزله لان رئيس الجمهورية يريده.
وفي اليوم التالي اتصل الرئيس ناظم عكاري بالوزير فؤاد بطرس ودعاه الى مقابلة رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، بحضور رئيس الوزراء رشيد كرامي وعرض عليه وزارة العدلية.
سأله فؤاد بطرس: هل تعرفني سابقاً، لتعرض علي وزارة حساسة جداً في بلد حساس جداً.
ورد فؤاد شهاب: لم أكن أعرفك لكنني، شاهدتك قبل ربع قرن، ترفض طلباً لوزير الدفاع لانه عرض عليك منصباً وجدت فيه خروجاً على القانون. وعندما قررت توسيع الحكومة الرباعية طلبت من الياس سركيس أن يبحث عنك، وأخبرني انه التقى بك، وأبلغك رغبتي في مشاهدتك، ولذلك ارسلت الرئيس ناظم عكاري للاجتماع بك. وأنا أعتبر ان السلطة امتحان وقد نجحت فيها قبل أن تشغلها.
ضحك فؤاد بطرس، لكنه قال لسيد العهد الجديد، انه لا يخالف القانون ولو على اشلاء جسده.
ورد فؤاد شهاب: هذا هو المطلوب. ووقف الإثنان ومعهما رشيد كرامي، على أبواب قصر الذوق.