لا يمكن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن يكتفي بتمثيل وزاري عادي أو أقل بقليل، ولا يمكنه الاكتفاء بوزير واحد ومجموعة مستشارين. القوى السياسية استنفرت مدفعيتها الثقيلة وحيتان الحريرية يسنّون أسنانهم فيما رئيس المجلس يحفر للعهد بتأن بعيداً عن الأنظار
حين دخل الرئيس أمين الجميل إلى بعبدا عام 1982، كان خصوم شقيقه بشير الجميل وأصدقاؤه معه، وكانت القوات اللبنانية والجيش وقوى أساسية في المعسكرين المتقاتلين تؤيده، إضافة إلى الدعم الإقليميّ والدولي الكبير.
وكان عدد من يعتبرون أنفسهم كتائبيين يتجاوز المئة ألف. إلا أن الجميل «نزعها» مع الجميع دون استثناء، وحين غادر بعبدا لم يكن عدد من يعتبرون أنفسهم كتائبيين يتجاوز العشرة آلاف. أما الرئيس أميل لحود فحظي في بداية عهده بتأييد شعبيّ يتجاوز التزام حزب الله معه، لكن لم يبقَ له في نهاية العهد سوى وفاء الحزب. حتى فوز مختار محسوب عليه في بلدته بعبدات لم يعد أمراً سهلاً. فما يتداوله بعض صحافيي القصر عن وزير كان يتنقل راقصاً ومغنياً بين غرف القصر من شدة الابتهاج، تداوله قبلهم بعقود صحافيون آخرون عن أشخاص تطابقت أرقام اليانصيب الرابحة مع الورقة الموجودة في جيبهم. لكن السؤال الرئيسي يتعلق بما ينوي الفائز أن يفعله: يودعها في المصرف ليعيش من فوائدها؟ ينفقها على عجل؟ أم يستثمر في مشاريع منتجة تتيح له مضاعفة الثروة؟ ولا شك في هذا السياق أن ما ينتظر الرئيس ميشال عون بعيداً عن الابتهاج العوني ليس سهلاً أبداً:
أولاً، رئيس مجلس النواب نبيه بري تعرض لضربة سياسية كبيرة باستغيابه كلياً عن التسوية السياسية الكبرى، وهو يبتسم اليوم ويساير، لكنه ينتظر دون شك اللحظة المؤاتية لرد الصاع صاعين.
ثانياً، خلف رئيس المجلس ثمة حشد كبير من الشخصيات السياسية والإقتصادية والإعلامية التي تستشعر تهديداً كبيراً من تحالف بعبدا ومعراب. وهؤلاء راكموا خلال عقود أسلحة كثيرة للحفاظ على مواقعهم التي باتت مهددة بالكامل، وهم سيضعون ثرواتهم وعلاقاتهم وكل نفوذهم بتصرف عودتهم إلى ما كانوا عليه. ولا أحد يتخيل أن ميشال المر وسليمان فرنجية وبطرس حرب وفريد مكاري وميشال فرعون سيرفعون بكل بساطة الرايات البيض. لعلهم يناورون قليلاً إلا أنهم يتربصون بالعهد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
ثالثاً، الخطر الأكبر على العهد يتمثل بجوع الشريك الرئيسي لعون في الحكم، الذي لا يريد شيئا غير فتح أبواب الوزارات أمام مقاوليه لنهب كل ما يستطيعون الوصول إليه من تلزيمات والتزامات وغيره. ولا شك أن مقتل العهد سيكون بسكوته عن شفط رمال البحر وتحويل المرافئ العامة إلى منتجعات خاصة، واختراع كل يوم حاجة ماسة لمشروع جديد. علماً أن خصوم الحريري لن يهاجموه شخصياً أو يسموه بالاسم، لكنهم سيهاجمون العهد الساكت عن الفساد يومياً. ولعل العونيين تعايشوا مع الإبراء غير المستحيل وسوليدير وسوكلين وصناديق ومجالس العهد وكل الاحتكارات الحريرية، إلا أن الرأي العام الأوسع لا يتعايش مع هذه جميعها، ولن يجد فرقاً بين مسيحيّي المستقبل والنواب العونيين فيما لو بقيت الحال على ما هي عليه.
رابعاً، هناك تهديد من يصفون أنفسهم برجال العهد، وهم كانوا فعلاً رجال العهد السابق والأسبق وكل العهود، وبات منظرهم على الشاشات يشعر الكثير من اللبنانيين بالغثيان، لكنهم يوهمون من هم في السلطة أنه لا غنى عنهم وأحداً لا ينافسهم في الكفاءة.
خامساً، والاخطر، أن العهد لا يتكئ على تسوية إقليمية أو دولية تفتح باب الاطمئنان إلى استقرار الأوضاع. فجميع المعطيات تفيد أن الحوار السعودي ــــ الإيراني لم ينطلق بعد، وقد راعت سوريا ضرورات انتخاب العماد عون رئيساً لكنها لم تعد النظر البتة في علاقتها بسعد الحريري وغيره من موزعي الحليب والحفاضات في أراضيها.
اللافت في هذا السياق أن جميع القوى السياسية تذهب إلى الحكومة المقبلة برؤوس الحراب لا حمامات السلام. فحين يوزر النائب وليد جنبلاط أكرم شهيب شيء، وحين يمثله الوزير مروان حمادة شيء آخر. وحين يمثل الوزير رشيد درباس بكل خلفيته العروبية والثقافية طرابلس شيء، وحين يمثلها النائب محمد كبارة شيء آخر، وحين ترسل القوات اللبنانية جو سركيس لتمثيلها شيء، وحين ترسل النائب جورج عدوان شيء آخر، والأمر نفسه ينطبق على توزير المردة يوسف فنيانوس بدل يوسف سعادة أو روني عريجي. هناك من يذهب إلى حكومة الشراكة والوحدة الوطنية المفترضة بعدة الحرب. وفي المقابل فإن الأسماء العونية المتداولة ــ إلى جانب الوزير جبران باسيل ــ لا توحي بحسن الاستعداد لتحديات العهد، ورصف البنادق الخفيفة جنباً إلى جنب المدافع الثقيلة. ويفترض بكل من التيار الوطني الحر والرئيس أن يقدم مفاجآت إيجابية حقيقية على مستوى تمثيلهما في الحكومة. ولا بد هنا من القول إن بعض الأسماء العونية المتداولة تستحق التكريم دون شك لنضالها الحقيقي الطويل لكن تكريمها شيء وتوزيرها شيء آخر، وبعيداً عن وزراء البروباغندا الإعلامية الدائمة لا بد من طرح أسماء قادرة على النهوض بوزاراتها وإحداث تغيير وإصلاح حقيقيين بدل إنفاق ملايين الدولارات على دراسات إضافية تترك في الجوارير واستبدال موظفين سيئين بآخرين أسوأ، لكنّ ولاءهم السياسيّ مختلف. وهناك في التيار من بات لديهم كل الخبرة اللازمة للوقوف في وجه مروان حمادة وعلي حسن الخليل ومحمد كبارة وغيرهم.