لطالما اعتبر جبران باسيل شخصية جدلية. لعله من أكثر العاملين في الشأن العام، إثارة للالتباس. طباعه وحركته أضافا على تلك الصفة، مزيداً من “الأكشن”… ليتحوّل بين ليلة وضحاها من وارث زعامة تاريخية استثنائية ورئيس أكبر تكتل نيابي مسيحي، ومرشّح متقدّم لرئاسة الجمهورية، إلى أكثر السياسيين تعرضاً للشتائم!
أمّا الانتقادات فهي كانت منذ صعوده الى الواجهة، ملازمة لمسيرته وحركته. تأتيه على المقدار ذاته من التنويه والإشادة بأدائه. لا بل أكثر في بعض الأحيان. تقودها جيوش الكترونية لا ترحمه، ولو بوسعها “تدمير” صورته فلن تقصّر.
لا تمرّ تغريداته مرور الكرام فيما خطاباته لا توفّر صديقاً أو خصماً. البعض يعتبر هذا الأسلوب الاستفزازي خاصرته الرخوة و”مقتله” السياسي، فيما يرى آخرون أنّ قوته في قدرته على مخاطبة الجميع، بزاوية تبلغ 180 درجة.
مريدوه يُعلون شأنه بوصفه الرجل الذكي، الذي لا ينام ولا “ينيّم” خصومه وكارهيه. في كل ما يفعله يثير دوماً موجات من السجال لا تنتهي. المنقذ. المبتكر. صاحب أفكار لا تنضب. المتقدّم في مواقفه حيث لا يجرؤ الآخرون. مهووس عمل. لا يتعب. المبادر، الحاضر دوماً في كل شاردة وواردة. حتى في “عنصريته” يرونه متماهياً مع شخصية بشير الجميل القيادية.
أما كارهوه فينفرون من إدمانه للشاشة والمنبر. خبير في الطاقة والاتصالات والنفط والغاز والدبلوماسية والاقتصاد والمال. تقريباً في كل شيء. عاشق لذاته حتى لو اضطره الأمر التسلّق فوق أكتاف من حوله طالما أنّ مصلحته هي الهدف.
الأهم من ذلك كله، استفزازيته. بمقدوره أن يشعل معارك على كل الجبهات في لحظة واحدة. عنجهيته لا تترك صديقاً ولا توفّر حليفاً. ولعلها السبب الذي جعله رقماً صعباً، في كافة مراحل صعود العونية السياسية. لا أحد يوازيه في استسهال الجمع بين التناقضات “المدمرة”. كأن يظهر حاجته للنظام السوري، كما حاجته للمجتمع الدولي، في آن واحد.
اختزل جبران باسيل المشهد العوني، حتى قبل تبوئه رئاسة “التيار الوطني الحر”. وحين دخل العماد ميشال عون قصر بعبدا، بدا أنّ للبلاد رئيسين. صبّ وزير الخارجية كل مجهوده ليكون في الواجهة. وها هو اليوم يدفع ثمن هذه الواجهة!
لطالما قيل إنّه لا يهتم كثيراً برأي الآخرين به. بل ربما على العكس تماماً، هو يسعد بنقد الآخرين له. وإذ به يستسلم دفعة واحدة لحكم الرأي العام عليه.
بدا مطلب إخراج باسيل من الحكومة وكأنّه مفتاح حلّ أزمة الشارع. إلى هذه الدرجة نجحت البروباغندا الاعلامية في تصويره على أنّه “مصيبة” العهد و”نكبته” ولو أنّ عمر الأزمة الاقتصادية – المالية أكثر من ثلاثين سنة، وإلى هذه الدرجة تثير شخصيته السخط لدى الرأي العام.
على هذا الأساس، انطلقت المشاورات بين القوى السياسية بحثاً عن مخرج يعيد الهدوء إلى الشارع. لم يتردد حلفاء “التيار الوطني الحر” في وضع الإصبع على الجرح: لا بدّ من “التضحية” بجبران باسيل في أي صيغة حكومية جديدة بعدما أسقطت الورقة الإصلاحية في الشارع في ضربة انعدام الثقة بالطبقة السياسية، القاضية.
ولكن حتى الآن، يبدو أن سيناريو التعديل الحكومي وضع في الأدراج بسبب التعقيدات المذهبية والسياسية التي حالت دون السير به. أهم تلك الحيثيات إصرار رئيس “التيار الوطني الحر” على أن يكون خروجه من الحكومة ضمن فريق ملون سياسياً ومذهبياً بحيث لا تكون البطاقة الحمراء المرفوعة في وجهه، “يتيمة”، لا تطال سواه.
يقول أحد الوزراء المشاركين في طبخة المشاورات إنّ طرح التعديل الحكومي لن يرى النور لأنّه سيثبت التهم التي يلقيها الشارع على بعض الوزراء دون غيرهم، في حال استبعادهم بصفارة “الانتفاضة”. وهو سيناريو سيحرق باسيل كلياً، ولذا تمّ التصدي لهذا الخيار.
التحرك المضاد
في موازاة هذه المشاورات، أظهرت تطورات اليوم السابع للانتفاضة الشعبية أنّ السلطة قررت بدء تحركها المضاد من خلال سلسلة اجراءات هي:
– أولاً، خلال الطلب إلى المؤسسة العسكرية العمل على فتح الطرقات بطرق دبلوماسية لا عنف فيها، ولكن بالتوازي مع تأمين حماية المتظاهرين خصوصاً وأن بعض المناطق تشهد مظاهر شاذة من شأنها ان تحرف “الثورة” وتحولها إلى حلبة تصفية حسابات سياسية. وفي هذا السياق، بات مؤكداً أنّ “التيار” لن يعمد، أقله في المدى المنظور إلى تنظيم تظاهرات مضادة.
– ثانياً، استعادة الحكومة لنشاطها من خلال وضع الروزنامة الإصلاحية التي أقرتها في جلستها الأخيرة موضع التنفيذ من خلال سلسلة قرارات يفترض اتخاذها في مواعيدها. ويؤكد أحد الوزراء المتابعين أنّ لجنة الإصلاحات الوزارية بحثت أمس سلسلة بنود يفترض بمجلس الوزراء إقرارها فور انعقاده.
– ثالثاً، إطلاق يد القضاء في ملفات الفساد أسوة بادعاء مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون على النائب نجيب ميقاتي وآخرين بجرم المادة الاولى من قانون الإثراء غير المشروع “بسبب حصوله على قروض سكنية مدعومة من مصرف لبنان عن غير وجه حق”. إذ يقول الوزير المتابع إنّ الأيام القليلة المقبلة ستشهد سلسلة إخبارات وأخباراً مماثلة تؤكد جدية العمل لمكافحة الفساد.ورغم ذلك كله، يؤكد أحد المتابعين أنّ سيناريو استقالة رئيس الحكومة لا يزال وارداً، ولكن بعد التفاهم على كامل مكونات الحكومة المقبلة التي ستكون بطبيعة الحال برئاسة سعد الحريري.