“إلى المخرّبين الذين يتطاولون علينا بحراك وتحرّكات نقول: إسمعوا جيداً. ما ترونه اليوم في الحدث هو مشهد مصغر لما يمكن أن يكون لتتذكّروا أننا “تيار وطني حر”. وكما الماء نحن، نجرفكم في لحظة لا تتوقعونها، إن بقيتم منتظرين عند حافة النهر مرور جثتنا”. هذا الكلام لوزير الخارجية رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في الحدث في 13 تشرين في ذكرى مرور 29 عاماً على “13 تشرين”، الذي احتل فيه جيش النظام السوري القصر الجمهوري في بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة، منهياً العهد الأول للعماد ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية. في هذا الخطاب أعلن باسيل أنه “يريد أن يذهب إلى سوريا كي يعود الشعب السوري إلى سوريا كما عاد جيشها”. في هذه اللحظة السياسية التي حكى فيها باسيل كان يعكس نوعاً من التهديد بالقوة يخفي حالة الخوف والهلع الذي يعيشه ويعبر عنه. وكان كمن يطلب اللجوء السياسي لدى النظام السوري بدل البحث في عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم التي هجّرهم منها هذا النظام. فالنهر الذي تحدث عنه نزل إلى الشارع وقطع الجسور والطرقات ونادى بسقوط الحكم والحكومة ولكنه بقي حراكاً بلا سلطة في مواجهة سلطة بلا حراك.
منذ قال رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط في حزيران 2011، بعد صدور القرار الإتهامي عن المدعي العام في المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، “هناك القدر وانا مؤمن به… سأنتظر على ضفة النهر ولا بدّ ان تمرّ جثة عدوي يوماً ما أمامي” صار الجسر والنهر من مستلزمات الحديث عن الإنتظار والإنتقام في اللعبة السياسية في لبنان.
بالعودة إلى ذلك الكلام الذي أراد من خلاله جنبلاط التعبير عن العجز عن التأثير في مجرى المحاكمة والأحداث الحاصلة، مع بدايات الثورة في سوريا والرهان على القدر وحده بانتظار مرور “جثة عدوي”، أراد الوزير جبران باسيل أن يرد على جنبلاط الذي لم يكن طبعاً يقصده عندما قال هذا الكلام قبل ثمانية أعوام.
عند ضفة النهر
لقد شاءت الأقدار أن تضاف مأساة الحرائق التي اشتعلت في أكثر من منطقة لبنانية وخصوصاً في الدامور والمشرف والدبية عند ساحل الشوف، إلى سلسلة المآسي التي يعيشها الناس الذين نزلوا إلى الشوارع يعترضون رفضاً للمعاناة الإقتصادية والمالية والوصول إلى حافة الإنهيار، بينما كان رئيس الجمهورية يخطب في الأمم المتحدة مهدداً بالإنفتاح على النظام السوري، وهو الأمر الذي اعتبر أنه رد مؤامراتي دولي خارجي وداخلي عليه. شاءت الأقدار أن تشتعل الحرائق على ضفتي نهر الدامور عند مدخل الشوف في الطريق المؤدي إلى دير القمر والمختارة، حيث شهد الجبل في آب 2001 قمة المصالحة التاريخية بين البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وبين النائب وليد جنبلاط، في محاولة لإطفاء الحرائق التاريخية التي اشتعلت في الجبل على مدى أكثر من مئتي عام من أجل بناء المستقبل، ولكن يبدو كأن هناك من يريد أن يعيد إشعال تلك الحرائق من جديد.
هناك عند ضفة ذلك النهر يرتفع عدد كبير من الجسور التي تنتظر كل يوم غروب الشمس عند ذلك الشاطئ الرملي الجميل، لا مرور الجثث والقتلى. هناك كان الجبل الأخضر عند مدخل الشوف ينتظر أيضاً كل يوم إشراقة فجر جديد قبل أن تدهمه النيران. هناك في مطعم “الجسر” قرب النهر وقرب الجسر المنتظر فوق النهر، كان بعض المتطوعين لدعم جهود إطفاء الحرائق يحاولون الإعتراض على حضور وزير المهجرين غسان عطالله. ذلك المشهد يعبر عن أزمة أكثر مما يعبر عن إشكال. تلك الأزمة التي نزلت أيضاً إلى الشارع مع التظاهرة التي نظمها “الحزب التقدمي الإشتراكي” في بيروت وصولاً إلى ساحة الشهداء يوم الإثنين 14 تشرين بعد يوم واحد على خطاب باسيل في الحدت. كأن مشهد المصالحة والمصارحة في المقر الرئاسي في قصر بيت الدين، والغداء العائلي الذي جمع عائلتي الرئيس ميشال عون والوزير جنبلاط انتهت مفاعيلهما، ومثلهما لقاء اللقلوق بين باسيل والنائب تيمور جنبلاط. وكأن تطويق حادث قبرشمون بالطريقة التي حصل فيها ترك الجمر تحت الرماد، ولم يكن إلا من أجل جولة ثانية من الإشتباك السياسي.
شارع “الواتساب”
ولكن يبدو أن الشارع سبق الجميع. نامت السلطة على محاولة تمرير بعض الضرائب الجديدة على “الواتساب” واستفاقت ليل الجمعة على الحراك الشامل الذي نزل إلى الشارع بدعوات تمّ توجيهها عبر “الواتساب”. لم تأخذ هذه السلطة بنصائح اعتماد الإصلاحات مع الموازنة فأخذتها موجة المطالبة بالإصلاحات.
في خطاب الحدث كان باسيل يعبر عن حالة من الهلع أكثر من محاولة الظهور بأنه يهدد من موقع القوة. فهو أتى بعد كلامه في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة ودعوته لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وأتى أيضا بعد الكشف عن اجتماعه مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يوم الإثنين 7 تشرين، والذي قيل أنه دام سبع ساعات للإيحاء بأنه بحث في الأمور الكثيرة المطروحة على الساحة اللبنانية. ولكن من الصحيح القول أن هذا الإجتماع الذي أريد له أن يكون شحنة قوة ودفع لباسيل أتى أيضاً بعد توتر في العلاقة مع “حزب الله” وبعد التظاهرات التي نزلت إلى الشارع ووجهت الإنتقادات إلى رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر”. بناء على كل ذلك كانت هناك مواقف لمسؤولين في “التيار” تسأل عن حقيقة موقف “الحزب” من الهجمة على العهد، وتعتبر أن “التيار” دعم “الحزب” وحماه في حرب تموز بينما لا يفعل “الحزب” شيئا للدفاع عنه وعن الرئيس في الحرب ضد الفساد، بعدما ظهر لـ “التيار” أن العهد في أسوأ مراحله السياسية وأنه بعد ثلاثة أعوام على رئاسة الرئيس عون بات وكأنه ينازع للصمود والإستمرار، خصوصاً أنه أتى في ظل حملة تقول أنه الرئيس القوي وأنه سيكون المنقذ من كل الأزمات وسيأتي بكل الحلول، وفي الواقع لم يظهر أنه حقق شيئاً. على عكس ذلك، ولأنه أعطى لنفسه هذه الصورة تم تحميله مسؤولية العجز والفشل، وهو الأمر الذي حاول باسيل استدراكه من خلال تحميل “الآخرين” المسؤولية وبالتالي تهديده بقلب الطاولة. ولكن قبل أن يكون قادراً حتى على قلب الطاولة كان الناس الذين نزلوا إلى الشوارع يقلبون الطاولة في مواجهة شاملة، لا يعرف الحكم وباسيل كيف يمكن الدفاع عنها وإنقاذ ما تبقى من العهد.
مؤامرة؟
حكى باسيل عن العرقلة بالمطلق. إذا كان هناك من يجب أن يقلب الطاولة عليه فلماذا لم يحدّده؟ رئيس الجمهورية حكى أيضاً عن مؤامرة. ولكن من هم الذين يحركون هذه المؤامرة؟ وإذا كان باسيل دعا الرئيس عون إلى قلب الطاولة وهدّد بالعودة إلى “قصر الشعب” ليقود الرئيس التظاهرات بدل أن يقود الدولة، فكان من الأفضل أن تكون لديه خطة أخرى لمواجهة الأزمات تنطلق من رؤية موضوعية لما يحصل. بعد ثلاثة أعوام لم يستطع العهد أن يصلح الأمور. وفي كلام باسيل ما يوحي بأن من الممكن أن يتحول إلى المعارضة ولكن معارضة من؟ من المسؤول عن الوضع الإقتصادي الداخل مرحلة الإنهيار؟ من المسؤول عن العودة إلى الحديث عن تدهور سعر صرف الليرة للمرة الأولى منذ خمسة وعشرين عاما؟ من المسؤول عن عودة مشهد الإزدحام على محطات الوقود؟ وعن تهديد أصحاب الأفران بالإضراب؟ كل ذلك أوحى بأن باسيل كان يدخل مرحلة الأخذ في الإعتبار أن العهد يترنح وأنه مع “التيار” سيتحملون المسؤولية. فهو على علاقة سيئة مع “القوات” ومع “الحزب التقدمي الإشتراكي” و”تيار المردة”، وعلى علاقة ملتبسة مع قائد الجيش العماد جوزف عون. وهو يشكك بما يقوم به حاكم مصرف لبنان رياض سلامه خصوصاً حول تثبيت سعر صرف الليرة. وهو يعاني إشكالية العلاقة السيئة مع عديله النائب شامل روكز الذي اختار أن يكون إلى جانب رفاقه العسكريين المتقاعدين في الشارع ضد المس بحقوقهم المالية ثم في قداس ذكرى 13 تشرين في كنيسة الصعود في ضبيه. وهو يعيش أزمة علاقة مع المجتمع الدولي. ولا يستطيع أن يلتقي مسؤولاً في الإدارة الأميركية. وهو لذلك اختار في بداية خطابه في الحدت أن يتوجه إلى العسكريين المتقاعدين الذين دفع عدد كبير منهم ثمن ما حصل في 13 تشرين. وإذا كان أراد أن ينصحهم بعدم التحول إلى قطاع طرق، فإن الكثيرين منهم عبروا عن ابتعادهم عنه واتهموه بالتسلق السياسي على حساب تضحياتهم.
لقد قيل أن باسيل يحاول أن يقدم أوراق اعتماده ليكون رئيس الجمهورية المقبل من خلال البناء على الدعم الذي يمكن أن يلقاه من “حزب الله”، على أساس لقاء السبع ساعات مع السيد حسن نصرالله. ولكن ما يمكن التوقف عنده أن مسألة البت برئاسة الجمهورية لا يمكن أن تحصل منذ اليوم، إذا كان ثمة التزام بأن يكمل الرئيس عون ولايته حتى 30 تشرين الأول 2022. وما يمكن التذكير به أن نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم كان أعلن أن مسألة الرئاسة تتحدد في ربع الساعة الأخير، بعدما كانت أثيرت مسألة دعم باسيل رئاسياً. ولكن هناك من يطرح المسألة من زاوية أخرى يراد منها الإساءة إلى الرئيس وموقعه. وذلك من خلال القول أن هناك احتمالاً بإقناع الرئيس عون بالإستقالة، كي يتم انتخاب باسيل خلفاً له لأنه لا يمكن الرهان على وصول باسيل بعد انتهاء ولاية عون. إذا كان “حزب الله” يريد أن يدعم اليوم باسيل ليكون رئيساً للجمهورية، فهل يقبل باسيل بتقصير ولاية الرئيس وهل يقبل الرئيس بهذا الأمر؟ وهل يستطيع “حزب الله” أن يؤمّن أكثرية الثلثين لعقد جلسة الإنتخاب؟ وهل يقبل الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري بالتصويت لباسيل؟ وهل مثل هذا الخيار يستطيع أن يقرره “حزب الله” وباسيل؟ وأكثر من ذلك، هل يخاطر “حزب الله” بانتخاب باسيل مهما كانت الضمانات التي يستطيع أن يقدمها الأخير إليه؟ وهل المطالبة بعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية أو الذهاب إلى دمشق يمكن أن يشكل حالة من اللجوء السياسي لفتح الطريق إلى قصر بعبدا، طالما أن مفتاح هذا الطريق لا يملكه “حزب الله” وحده. فهو يستطيع أن يعرقل وصول رئيس لا يريده ولا يمكنه أن يفرض وصول رئيس يريده.
في ظل الحديث عن النهر الجارف قد يكون من الأجدى البحث عن سطل ماء لإطفاء كرة النار التي ألقيت بين يدي العهد والسطة والحكومة. بعد الإنتخابات النيابية اعتبر الرئيس عون أنه يشكل حكومة عهده الأولى، وأن أكبر كتلة نيابية تقف إلى جانبه وأنه يدير أكثر من ثلث الحكومة لوحده وأكثر من نصفها مع غيره. من المؤسف أنه بعد أقل من عام على تشكيل هذه الحكومة يرى العهد نفسه أمام حكومة انتهى عمرها، وأن عليه أن يبحث عن حكومة إنقاذ جديدة تأخذ في الإعتبار أن المطلوب ليس جرف الآخرين وانتظار الجثث تعبر، بل بناء جسور التلاقي والعبور إلى الضفة الأخرى من النهر وإعطاء أسباب جديدة للحياة. وبدل شد الظهر بالنظام السوري وتقديم أوراق اعتماد اللجوء السياسي لديه، من الأفضل مد اليد إلى من يفترض أن يكونوا الأقرب إليه.