لا يريد كثيرون من معارضي النظام الإقرار بأن الواقع الشعبي غير مكتمل النضوج لخوض جولة جديدة من المواجهة. الأمر لا يتعلق بمنسوب الغضب عند الناس، ولا بالشعارات والأهداف. صحيح أنه يمكن توقع ملء الساحات. لكن القصة، هنا، تتصل بالخصم، إذ إن حكومة حسان دياب ليست الخصم الفعلي للناس، وهي تتمتع بقدر معقول من الشرعية الشعبية، ليس فقط لدى جمهور القوى المشاركة فيها – وهي قوى كبيرة ولديها قواعدها الواسعة – بل أيضاً لدى جمهور ممتعض من أداء السلطات المتعاقبة. وهذا جمهور ليس سهلاً إقناعه بأن دياب وغالبية الوزراء معه، من نفس طبيعة رؤساء الحكومات والوزراء الذين يعرفهم اللبنانيون منذ خمسين سنة على الأقل. الاختلاف، هنا، لا يقتصر على المواصفات الشخصية لغالبية الوزراء، بل لأن الجهد المبذول من قبلهم كبير جداً، حتى ولو لم تظهر نتائجه بصورة كاملة. حتى إن القوى المعارضة للحكومة – مثل سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وآل الجميل – ليس لديها قدرة فعلية على تعبئة الجمهور ضد هذه الحكومة. كل ما ما هم قادرون على تقديمه للناس، هو النغمة نفسها عن سلطة حزب الله وسيطرته على البلاد. وهي نغمة أصابها عطب كبير، ليس لأنها غير صحيحة فقط، بل لكونها لا تمثل برنامج عمل. يكفي أن جمهور هذه القوى يراقب يومياً سعي قياداته الدائم الى عقد اتفاقات مع حزب الله. ولولا ضغوط المرجعيات الخارجية لهذه القوى، لكنا شاهدنا هؤلاء في طابور طويل على مداخل الضاحية الجنوبية.
أمر آخر يعرفه خصوم الحكومة الحالية من عتاة النظام الفاسد، وهو أن قتالهم اليوم دفاعي فقط. وهو قتال لا يقود الى تغييرات نوعية يريدها الجمهور. يعرف ثلاثي المعارضة (الحريري، جنبلاط وجعجع) أن من يقدر على إطاحة هذه الحكومة، يجب أن يأتي وفي جيبه مليارات الدولارات، وعينة جديدة من المسؤولين. وهذا غير متوافر لدى هؤلاء، وليس وارداً في أجندة مرجعياتهم الاقليمية والدولية. أصلاً، لم يعد بمقدور هؤلاء إقناع السعودية وأوروبا وأميركا بإنفاق دولار واحد تحت عنوان «مواجهة حزب الله»، بعدما تعب ممثلو المرجعيات الإقليمية والدولية من كذب جماعاتهم في لبنان ونفاقها وفشلها. ووصل الأمر حد مباشرة الإدارة الأميركية، ومعها الأوروبيون والعرب أيضاً، نقاشاً حول ضرورة استبدال هؤلاء الحلفاء بآخرين. وهنا، يجب التدقيق في طبيعة تركيز هذه المرجعيات الخارجية على من يطلق عليهم «ناشطي الحراك» في لبنان.
كثيرون يعرفون أن في دوائر الغرب من يطرح بجدية، وبإلحاح، ضروة السير في تغيير شامل لآليات العمل وللأدوات أيضاً، سواء كانت شخصيات أم أحزاباً أم حتى وسائل إعلامية. بهذا المعنى، يعرف الثلاثي المعارض أنه ليس بمقدوره إعادة إنتاج الطبقة نفسها من الممثلين في إدارات الدولة. لا يوجد في كتلهم النيابية، مثلاً، اسم واحد يحظى باحترام الجمهور. الحريري وجنبلاط يكادان يستسلمان لعدم القدرة على استيفاء جهود إضافية من جيل القيادات التي عملت معهما. أما سمير جعجع، فقد وصل الى خط النهاية في لعبة استعارة شخصيات من خارج قياداته العملانية، فكيف وهيكليته التنظيمية تجتر نفسها سنة بعد سنة وجيلاً بعد جيل.
هذا الواقع، يمكن عكسه بطريقة مختلفة، لكن في الوجهة نفسها، على القسم الآخر من المحتجين. صحيح أن غالبية الناشطين رفضوا فكرة القيادة الموحدة للانتفاضة لأنهم لا يقدرون على التنازل، بعضهم لبعض، لكن المشكلة أن هؤلاء استهلكوا قدراتهم سريعاً. صار بالإمكان سريعاً تخيُّل ردّ فعلهم على أيّ حدث يحصل: كيف يستغيثون بوسائل التواصل الاجتماعي للصراخ والتعبئة. وكيف يجهدون لحشد عشر ما كانوا يقدرون عليه قبل أشهر. وكيف يعانون من ضيق الأفق إزاء الحلول. أخطأ هؤلاء عندما اعتقدوا أن المعارضة مهنة يعتاشون منها. رفضوا الإقرار بأن المعارضة، في بلد كلبنان، لا تعيش وتنمو إذا لم يكن بمقدورها عقد التسويات في اللحظات الحرجة. وهؤلاء يرفضون اليوم الإقرار، أيضاً، بأن الإعلام لا يصنع ثورة حقيقية. الإعلام يساعد على انتشار فكرة، لكنه في بلد كلبنان لا يقلب الطاولة فوق رأس أحد. فكيف والإعلام هو جزء من هذا النظام وجزء من المشكلة، وأي إصلاح حقيقي يجب أن يشمله بقسوة أشد من مواقع أخرى في البلاد. هذا عدا عن الثغرة الهائلة في نشاط غالبية مجموعات الحراك، والمحددة بالتمويل الخارجي لهم عبر منظمات غير حكومية، أو مسارب دعم يعود أصلها الى حكومات الغرب.
هذه الصورة قد تكون مفيدة لحكومة حسان دياب حتى لا يخشى انقلاباً وشيكاً عليه، لكنها تتحول الى عبء متى تأخر دياب وفريقه في طرح الخطوات العملانية لمعالجة مشكلات مختلفة. ليس بين اللبنانيين من ينتظر السحر. لكنّ هناك اقتناعاً بأنه يمكن تحقيق الكثير في مواجهة مافيات النظام. والاساس هو الطرق بانتظام على رؤوسهم. وهو طرق يؤتي ثماره إن أحسنت الحكومة خلق تواصل منطقي مع قسم كبير من الشارع الغاضب. اليوم، يمكن لحسان دياب أن يخاطب جمهور الغاضبين على أنهم شركاء لا خصوم له. وردود الفعل الشعبية على خطاباته دليل على إمكانية حصول ذلك. لا يحتاج الرجل الى أدوات تقليدية في معركة غير تقليدية. ولا يحتاج على الإطلاق الى مراعاة كل أنواع الحسابات الطائفية والمذهبية والمناطقية والجهوية. بل على العكس، يحتاج الى ما يثير غضب كل اللاعبين التقليديين.
ليس أمام دياب وفريقه سوى التفكير دائماً بطريقة مناقضة لما كان قائماً. وكل خطأ يقع، ستكون كلفته أقل بكثير من إعادة تكرار المشهد نفسه. والسؤال هو: كيف يمكن إقناع دياب بأنه يملك قوة لا تقل فعالية عن قوة كل شركائه في الحكم اليوم. وهي قوة تمكّنه من المواجهة والمناورة، ولا تتطلب منه المغامرة أو الانتحار!