السياسة تتطلب شيئاً من البراغماتيّة في بعض المنعطفات، رغم أنّ المجاهرة بهذا الرأي قد يوحي للبعض أنّه دعوة مستترة لإغفال الشق النظري والمبدئي الذي يفترض أن يقود أي فكر سياسي، لأنّ غيابه المطلق يعني الركون إلى الانتهازية والوصوليّة وإسقاط الاعتبارات الأخلاقيّة من مسارات العمل.
والبراغماتية تُبنى على العقلانيّة التي يمكن من خلالها تغليب المصلحة العامة على المصلحة الفئوية الخاصة، ولكن هذا الأداء يتطلب وجود «طينة» معيّنة من رجال السياسة الذين يرتقون إلى مصاف «رجال الدولة»، أي أولئك الذين لا يطلبون شيئاً لأنفسهم، ويكرّسون حياتهم السياسيّة في سبيل الخدمة العامة.
خذوا سياسات واشنطن مثالاً! هل هناك براغماتيّة أكثر من تلك التي قامت بها إدارة الرئيس جو بايدن من خلال صفقة تبادل السجناء التي أنجزتها مع طهران بوساطة قطريّة و»حررّت» إيران من خلالها مليارات الدولارات المجمدة بموجب الإتفاق. طبعاً، الرئيس السابق دونالد ترامب سارع إلى مهاجمة الاتفاق وهو مناسبة جديدة له لانتقاد الإدارة الحالية وطريقة تعاطيها مع الملفات الكبرى في السياستين الخارجية والداخلية.
قد يكون البعض مع سياسات ترامب، والبعض الآخر مع سياسات بايدن، وهذا أمر طبيعي. لكن النقاش السياسي ليس حول هذه النقطة التي تبقى مساراً طبيعياً في الحياة السياسيّة أن تطغى الخلافات بين الأطراف المتناقضة وأن يسعى كل طرف إلى إقناع الرأي العام بصوابيّة موقفه.
المسألة الأساسيّة التي تستحق النقاش هي البراغماتيّة في السياسة التي اعتمدت من قبل العاصمتين على حد سواء: واشنطن وطهران. الأخيرة لم تجد حرجاً في إبرام صفقة مهمة بالنسبة لها مع «الشيطان الأكبر» كما دأبت على تسميتها منذ الثورة الإسلامية سنة 1979. هذا شعار يمكن وضعه جانباً طالما أنّ ثمة استفادة كبرى من الصفقة.
الأمر ذاته ينطبق على واشنطن التي حققت خطوة هامة بالنسبة للرأي العام الأميركي الذي غالباً ما ينظر بعين الرضى لعودة مواطنين أميركيين من الأسر إلى ديارهم سالمين. بطبيعة الحال، هذا لن يلغي النقاش السياسي، خصوصاً بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حول آليات الخطوة وحول فكرة أن توافق دولة ما على الركون إلى الحلول التي يضعها «الخاطفون» فيحررون أموالاً لهم مقابل استعادة حرية هؤلاء!
ليست المرة الأولى التي يحصل فيها أمر كهذا وأغلب الظن أنّها لن تكون الأخيرة طالما أنّ ثمة دولاً لا تتوانى عن القيام بهذه الأعمال مقابل مكاسب سياسية، وفي المقابل الدول المتضررة تخضع لهذه المعادلة لتحقيق أيضاً مكاسب سياسيّة على مستوى آخر.
كل ما في الأمر أنّ هناك حاجة ملحة للأطراف التي تعمل في السياسة أن تستخلص العبر من البراغماتية من دون أن تلقي في القمامة المبادئ الأساسيّة (وبعضها قد رمتها هناك منذ زمن دون أن يرف لها جفن!).
نعم، ثمة براغماتية مطلوبة في السياسة اللبنانية اليوم وأكثر من أي وقت مضى، من دون أن يعني ذلك الخضوع لهذا الطرف أو ذاك أو الركون لفكرة «الابتزاز السياسي»؛ بل الجنوح نحو سلوك مسارات إنقاذيّة تظهر للرأي العام فعلأً من هي الأطراف المعطلة ومن هي الأطراف التي تسهّل الحلول السياسيّة.
إنتخاب رئيس الجمهوريّة هو المدخل لحل المعضلات، ولو أنه ليس هناك من عصا سحريّة، ولكنه على الأقل يتيح إعادة الاعتبار للمؤسسات الدستوريّة وعملها بانتظام. حتى ذلك الحين، الله يعين!