المناظرات الهوائية التي ظهرت عشية جلسة مجلس النواب الأخيرة، تضمنت آراء لا يمكن تجاهلها لكونها على تماس بكيانية الدولة ومفاهيم دستورها، ومنها العيش المشترك وانعكاسه على قانون الانتخابات النيابية وصلاحية المجلس النيابي بالتشريع قبل انتخاب رئيس الجمهورية.
فالعيش المشترك تفاهم تحدّد الدول، ومنها لبنان، عناوينه العريضة في متن دساتيرها، بحيث يصبح ما ورد في الدستور من بنود الميثاق وما هو خارج عن ذلك يبقى متاحاً للعبة السياسية، شرط أن لا تنتهي تلك اللعبة إلى ما يتعارض مع ما ورد في الدستور من تلك العناوين العريضة.
ووثيقة الوفاق الوطني، التي صدقها مجلس النواب في 5 تشرين الثاني 1989، نصت على ان «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». ولم تكتف الوثيقة بذلك إنما وضعت الخطوط العريضة لمعظم ما جاء فيها من عناوين، ومنها الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومات؛ فعلى الصعيد الأول جاء في الفقرة الخامسة من باب الإصلاحات السياسية ـ مجلس النواب: «إلى ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد: بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين ونسبياً بين المناطق».
ويظهر جلياً من نص الفقرة السابقة ان وثيقة الوفاق أكدت ان قانون الانتخابات النيابية المنشود هو القانون الذي يحترم المواطنية ولا يعتمد أي صيغة طائفية لنصها «إلى ان يضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي»، وبذلك يكون التساوي والنسبي المعتمَد هو إجراء مرحلي اعتبر يوم إقرار الوثيقة خطوة من شأنها أن تقرب نحو الهدف الأساسي، والنهائي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى ان الوثيقة حرصت على التمسك بصورة العيش المشترك بين الطوائف التي يعتبرها اللبنانيون نعمة ونموذجاً، فقضت بأن يترافق قانون الانتخاب المتحرر من القيد الطائفي مع تشكيل مجلس الشيوخ الذي «تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية». أما ما تبقى من أحكام يمكن ان يتضمنها قانون استحداث مجلس الشيوخ فبقي مفتوحاً، وبهذا أفسح في المجال للذين يغلبون الطائفية على المواطنية إقحام قانون إنشاء هذا المجلس ليزيل خوفهم.
إن هذه العينة من وثيقة الوفاق الوطني ـ الدستور تقتضي التساؤل: أي قانون انتخاب صدر ولا يوجد فيه ما يتناقض مع تلك العينة؟ ألا يمكن سؤال الذين يكبدون أنفسهم عناء وضع مسودات لقانون انتخابات جديد لماذا لا تطالبون بتطبيق ما جاء في الوثيقة وسد الثغرات التي أصبحت شائعة عند تطبيق أي قانون؟
ان لبنان لا يحتاج إلى مزيد من صيغ قوانين الانتخاب بعد ان أجرى سائر دوراته الانتخابية منذ نهاية الانتداب الفرنسي ولم يصدف ان واحدة منها كانت متوافقة مع أخرى، باستثناء القانون الصادر سنة 1960، وربما كان السبب في عمره المديد ومن ثم بعثه الظروف التي ظهرت بعد انتهاء عهد الرئيس فؤاد شهاب.
من هنا يمكن توجيه استجواب للذين يعرقلون إصدار قانون انتخابات لا يتعارض مع الهيكلية التي رسمتها وثيقة الوفاق لهذا القانون عما إذا كانوا يعتقدون انه مهما كانت دقة القسمة الطائفية وكسب حقوقها عادلة، هل يمكن للطوائف أن تستمر في اعترافها بهذه العدالة في ظل تطور الأحداث؟ أليس ما هو «عادل» اليوم يمكن ان يصبح جائراً غداً؟ إن مثل هذا الافتراض الأخير يستوجب السؤال، ولنقل النصيحة، عما إذا ما تمسك أي طرف بالعدالة قولاً وعملاً ألا يكون مهيأ للإمساك بـ«الحصتين» اللتين وردتا في الفقرة الخامسة من وثيقة الوفاق التي أشير إليها سابقاً؟
إن هذا شبه مستحيل، لأن معظم المستسلمين للواقع لا يكتفون بتجاهل الوثيقة والدستور، إنما يتحزّبون لمن هو ضدهما بدعمهم المباشر وغير المباشر. فعندما حاول رئيس المجلس النيابي نبيه بري تشكيل الهيئة الوطنية التي تكتفي فقط باقتراح الحلول لإلغاء الطائفية السياسية فقط، أيضاً استنفرت بعض القيادات الروحية وهددت بالنزول إلى الشارع لمنعها، وكان هذا كافياً للاستجابة إلى تهديدها.. فكيف إذا نزلت؟!
وعلى الصعيد الثاني، المتعلق بالمواقف التي طرحت حول جلسة المجلس الأخيرة، يقول البعض ان المجلس لا يستطيع التشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية مستندين في ذلك للمواد 73 و74 و75 ـ دستور.
إن المادة 73 لم تبقَ ذات مفاعيل بعد ان تم العمل بها وما زال عندما دعا رئيس المجلس لجلسة انتخاب رئيس للجمهورية وما زال يوجه الدعوة مرة بعد مرة حتى وصل عدد الدعوات حتى اليوم إلى 15 دعوة متتالية. وبهذا المعنى، فإن المجلس كرئاسة ومؤسسة لا يمكن ان يتحمل غرماً لم ينل هو غنمه، إنما الطامحون للرئاسة من دون غيرهم. وفي ظل استمرار العمل بالمادة 73 بصورة متتالية تسقط مفاعيل المادة 74 باعتبار ان مفاعيلها تبدأ بعد توافر شرطين هما: ان تتقاعس رئاسة المجلس عن دعوة المجلس لانتخاب الرئيس قبل مدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر، وان لا يستطيع المجلس الاجتماع في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولاية الرئيس وحتى انتهاء الولاية. ولذلك فان المادة 74 وضعت لملء سدة الرئاسة عندما تفرغ أثناء استمرارها وليس قبيل مواعيد محددة عشية انتهائها.
والأهم من هذا اعتبار ان المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية لا هيئة تشريعية، وبالتالي فإن التشريع قبل انتخاب الرئيس غير جائز.
من الملاحظ أن المشترع اعتمد كلمة «يجتمع» في المادتين 73 و74 وكذلك في مواد عديدة أخرى، بينما استبدل «يجتمع» في المادة 75 بقوله: «إن المجلس الملتئم» وبذلك يكون قد قصد أمراً هو التمييز بين المصطلحين، فالالتئام هو انعقاد الجلسة بنصاب قانوني، أما الاجتماع فهو الدعوة إلى الالتئام؛ فرئيس المجلس يدعو للاجتماع وكذلك رئيس مجلس الوزراء، ولكن إذا لم يكتمل النصاب فلا يمكن ان يحصل الالتئام. ولهذا فان المادة 75 هي خاصة بأحكام الدعوة لجلسة الانتخاب التي اكتمل نصابها وافتتحت ولا ارتباط لها لا من قريب ولا بعيد بشغور سدة الرئاسة أو عدم شغورها.
يبقى القول إنه في جلسة إقرار التعديلات الدستورية المتعلقة باتفاق الطائف قال النائب بطرس حرب وفق ما جاء في محاضر المجلس: «قد يقول كثيرون إنه من خلال ما اتفقنا عليه قد تنازلنا عن حقوق طوائف. أريد أن أؤكد أننا تنازلنا عن حقوق كل الطوائف وأن كل الطوائف قد خسرت، إنما لبنان قد ربح».
ترى هل هناك من يتجرأ على استكمال «الخسارة» ليكتمل «ربح» الوطن؟