يصعب على الجيل السياسي المخضرم أن «يتعايش» مع قانون الإنتخاب الذي سيُرسل الى المجلس النيابي بـ 128 نائباً على قاعدة النسبية غير الصرفة، لأنّ في هذا القانون دوراً للنظام الأكثري من خلال إحتساب الصوت التفضيلي… ولأنّ فيه وجهاً من القانون الأرثوذكسي الذي لم يبصر النور من خلال الصوت التفضيلي ذاته الذي يبدو أنه سيتوزّع على قاعدة الطائفية المذهبية إذ من المستبعد (عموماً، مع إستثناءات ستكون محدودة جداً) أنّ يُعطي المسلم صوته (التفضيلي) للمسيحي في اللائحة الإئتلافية الواحدة، وكذلك المسيحي… أضف كيفية إعطاء الأرثوذكسي التفضيلي للماروني أو للكاثوليكي أو للسني أو للشيعي ضمن الدائرة ذاتها. ولأنّ فيها وجهاً من أوجه الدائرة الفردية كون الصوت التفضيلي إياه لا يمكن أن يُعطى سوى الى مرشّح واحد.
إنه الصوت الذي لا شبيه له في أي إنتخابات تُـجرى على أي قانون غير هذا القانون، الغريب العجيب، الذي نبادر الى القول إننا لا نعارضه وكذلك لا نموت في تلابيبه! إنه الصوت السحري الذي ستكون له الكلمة الفصل! ولا يفوتنا أن ندّعي بأنه الصوت الذي سيعزّز وينعش «إقتصاد» ناخبين بأعداد كبيرة من خلال القدرة على «شراء» الأصوات «التفضيلية» بظروف «مؤاتية» أكثر مما كانت عليه في القانون الأكثري…
في هذا السياق يمكن توقع إجتراح العجائب بـ «الصوت التفضيلي» الذي نأمل ألاّ يضطر مبتكروه لأن يلعنوا الساعة التي طلعوا فيها بهذه الصرعة الإنتخابية… مع إعترافنا بأننا لسنا وحدنا من يعتمد هذا الإبداع في الإنتخابات.
وتحضرني في هذه المناسبة إحدى «خمريات» أبي النوّاس، وهي القصيدة التي مطلعها «دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءُ/ وداوني بالتي كانت هي الداءُ»… إذ ارتقى في عشقه الخمرة وإدمانه عليها الى أن جعلها في مصاف صانعي المعجزات، ليس فقط لقدرتها على الشفاء من الأمراض، بل خصوصاً لقدرتها الإستثنائية على أن تدبّ الأحاسيس حتى في الحَجَر…
فإذا لامست الخمرة حجراً صلداً أخذته نشوة من الفرح والسرور. وقد قال في ذلك: «صفراء لا تنزلُ الأحزانُ ساحَتَها/ لو مَسّها حجرٌ مُسّتهُ سَرّاءُ»!
أما الصوت التفضيلي عندنا فيدهب أبعد من خمرة أعظم شعراء الخمريات في العالم قاطبة وليس في ديوان الشعر العربي وحسب. لأنّ من شأن هذا الصوت أن يصيب المرشّح الذي «يَمَسّهُ» بالإعتزاز والسرور و…الفوز في الإنتخابات! أمّا من يتجنّبه هذا الصوت فتصيبه الخيبة والحزن و… الخسارة.
ولا نريد أن نمضي في المقارنة بين صوتكم التفضيلي وخمرة أبي النوّاس، مخافة أن نقع في متاهة البيت الذي يتناول النادل الذي يقدِّم الخمرة في خمّارة أبي نواس والذي نكتفي بكلماته الأولى الثلاث «من كفِّ ذات (…)» ولا نُكمل الإقتباس! كما أننا نستعيذ باللّه من أن نكون في وارد تشبيه مقر الإنتخاب بالخمارة… ولكننا لابدّ من أن نختمها بهذه النادرة «التاريخية»: قصد الشاعر الخليع «والبة بن الحباب»زميلَه في الخلاعة أبا النواس فاهتدى إليه في إحدى خمّارات البصرة ولما بلغها كان السكرُ قد تعتع أبا النواس فاستسلم الى النوم العميق… فما كان من «والبة» إلاّ أن بدأ بمعاقرة الخمرة حتى إذا إستفاق أبو النواس كان «والبة» مغرقاً في سباته… واستمرت الحال هكذا أسبوعاً كاملاً (على ذمة الراوي): يتواجدان في مكان واحد ولا يلتقيان!
… والمهم أن تجمع صندوقة الإقتراع كرام القوم على الخير ومصلحة الوطن، فلا يفعل فيهم «الصوت التفضيلي» ما فعلته الخمرة في والبة بن الحباب وأبي النواس.