IMLebanon

لبنان الكبير… والمفترق الحاسم

د. نبيل خليفه

لبنان الكبير… والمفترق الحاسم

 

يمرّ لبنان الكبير في هذه المرحلة بواحدة من أدّق مفاصله الدوليّة. إنّه معرّض، بشكل مؤكّد، الى نوع من الخيارات المفصليّة حيث تمتحن فيه، وفي الوقت عينه، طبيعته وتركيبته الجغرافيّة والبشريّة. وموكوّناته البشرية والسياسيّة والعقائديّة. إنّه دولة يسعى البعض، لأكثر من سبب وسبب، لإعادة النظر في وجودها ودورها على ضوء التطوّرات والتحوّلات التي أصابت وتصيب دوّل الشرق الأدنى في النصف الأوّل من القرن الحادي والعشرين.

 

وطبيعي القول، أن ما يتعرّض له لبنان من تجارب جيو- سياسيّة، يشكّل امتحاناً قاسياً، ولا بدّ منه، لدولة الواجهة البحرية المتوسطيّة في منتصف الواجهة الشرقيّة للبحر المتوسّط. فمنذ مئة عام ونيّف، تقوم هذه التجربة الدولاتية بكل أنواع النشاط الفكري- السياسي المعبّر عن عزيمة التفوّق التي ترافق نشاط الانسان المتفوّق على مسار التاريخ. لكن هذه التجربة تواجه اليوم امتحاناً صعباً وقاسياً والبعض يعتبره مستحيلاً حيث يضع لبنان على المفترق الحاسم ويهدد وجوده بالذات. ان الخطب والتصريحات التي تنطلق من لبنان وتحديداً من الفاعليات الدينيّة والسياسيّة وآخرها للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الراعي ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، تشير الى وجود خلل بنيوي في التركيبة اللبنانية الحالية وتدعو الى تصحيح هذا الخلل بأقرب وقت، وبأفضل طريقة، كي لا يؤدي الاستمرار فيه الى انهيار الوطن ودمار الصيغة.

 

فما هي الحال؟

 

وما هو المطلوب؟

 

ما هي الحال؟

 

1 – يعاني لبنان اليوم، وفي آنٍ واحد، من صراع ايديولوجي ومواجهة سياسية، ومجابهة دينيّة، واستقلاليّة سلطويّة وانتفاعيّة مادية. وهي ممارسات يسهل تحقيقها في ظل نظام قائم على الجشع والطمع وعلى التخلي عن كافة قيّم الفكر العقائدي الوطني اللبناني واستبداله بأنظمة غريبة عنه. ففي الصراع الايديولوجي يتواجه نموذجان للكيانيّة اللبنانية: كيان لبنان السيد الحرّ المستقل من جانب، وكيان لبنان كولاية للفقيه من جانب آخر. وتقع المواجهة السياسيّة بين العرب والفرس. كما تقع المواجهة الدينيّة بين الشيعة والسنّة. ويتحدد شكل الحكم في الدولة على ضوء مفاعيل الجشع والطمع المعشعشة في ثنايا وحنايا المؤسسات الرسميّة والخاصة.

 

2 – الأخطر من ذلك، ان الفئة الحاكمة لا تنتظر وقوع الاشكال في السلطة كي تستغله بسرعة وسهولة، بل إنّها تعمد هي بالذات الى خلق هذا الاشكال كي تسارع الى استغلاله. ان طرح مقولة الشغور الرئاسي على لسان السلطة الحاكمة هو بذاته «مؤامرة على ما يمثل منصب الرئاسة في الجمهورية، بل هو خيانة بحق لبنان. وحذار التلاعب برئاسة الجمهورية لأن التلاعب بها هو تلاعب بالجمهورية ذاتها، وحذار فتح هذا الباب».

 

لذا، يدعو البطريرك الى الكف عن المغامرات والمساومات فالرئاسة ليست ريشة في مهب الريح بل هي عماد البناء السياسي الثابت للجمهوريّة. فإذا سقط العمود فالبناء كله يسقط.

 

3 – في الوقت عينه، يطلق الدكتور سمير جعجع انذاراً الى الجميع في خطابه بعد قداس السنة لشهداء المقاومة اللبنانية في معراب في 4 أيلول الحالي:

 

– فهو يدعو الى المجيء برئيس مواجهة للسلطة القائمة.

 

– رئيس يتحدّى السلطة القائمة وليس رئيس تسوية.

 

– ويشدّد على ان الاستحقاق الرئاسي ليس مرتبطًا بسياسات اقليميّة بل بإرادة برلمانية لبنانية تنظر بشكل صحيح الى مستقبل لبنان، وتتصرّف على هذا الأساس خارج ضغوطات جماعة «محور الممانعة».

 

– ويشدّد جعجع ايضاً على مسؤولية نواب المعارضة في التفاهم على اختيار شخصيّة لبنانية وطنية اصلاحيّة تعيد الى لبنان مكانته ودوره في رسم صورة المنطقة وليس لبنان الضعيف المعذّب الجائع الفقير. المطلوب أولاً وأخيرًا رئيس انقاذي، ومثل هذا الخيار تتحمّل مسؤوليته جميع قوى المعارضة في المجلس. فإذا لم تفعل هذه القوى ذلك «تكون فعلاً قد خانت الأمانة التي مُنحت لها من جانب الشعب اللبناني!».

 

4- نظريًا، ما يذهب اليه البطريرك والدكتور جعجع هو صحيح. ولكن: كيف وبأية طريقة يمكن تحقيق الاحتمالات والامكانيات التي يطرحانها لتحقيق هذه القفزة النوعيّة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة اللبنانيّة؟

 

• الاحتمال الأوّل هو أن يسيطر الوعي السياسي على مختلف القوى التي تواجه استبداد السلطات على مختلف مستوياتها. والوعي، يفرض أوّل ما يفرض، تصوراً صحيحاً لواقع الأمور وطريقة معالجتها بالشكل اللازم والحازم في آن.

 

• هذا يفرض، على المستوى الثاني، جمع هذه القوى حول تحليل مشترك ورؤية مشتركة للوضعيّة اللبنانيّة الحاليّة. وإذا كانت الأحزاب المعروفة، ذات توجهات معروفة أيضاً، يبقى المطلوب إيجاد رأي جامع لدى قوى المعارضة الجديدة ومنها جماعات شبابيّة عادة ما يقودها الحماس بأكثر مما تقودها الواقعيّة العلميّة. وهذا يتبدى في صعوبة الوصول الى رأي موحّد وموقف موحّد من القضايا المطروحة ولا سيما من موضوع رئاسة الجمهورية وإيجاد اجماع على الشخصيّة المطلوبة والمقترحة والمناسبة لشغل هذا المنصب في المرحلة الراهنة.

 

– ان قيام تحالف، ولو مرحلي، بين قوى المعارضة للنظام القائم هو الإمكانيّة الصحيحة والوحيدة، لاحداث تغيير قائم على الأسس الديمقراطية. حتى ولو جرّبت القوى الممسكة بالسلطة منع قيام مثل هذا التحالف بجميع الوسائل الممكنة والمتاحة.

 

– ومن البديهي القول ان قيام مثل هذا التحالف هو أمر ممكن وضروري ولكنه ليس سهلاً أبداً نظراً لتعقيدات الوضع اللبناني وارتباطاته بالخلفيات الايديولوجيّة المعروفة منذ قيام كيان لبنان الكبير والجمهورية اللبنانيّة الى اليوم.

 

***

 

باختصار، ان ما يحدث في لبنان الآن، وما يمكن ان يحدث فيه غداً، ليس مجرّد خلاف سياسي ضمن الصيغة، بل هو في الحقيقة، وبوجود «حزب الله»، صراع على كيان لبنان الدولة ودورها ومعنى وجودها لأنّه صراع يقوم على معطيات ايمانيّة مسبقة تتجاوز، بل تلغي مفاهيم الديمقراطيّة السياسية بصيغتها الغربية وتطرح بديلاً لها صيغة دولة ولاية الفقيه مع ما يستتبع ذلك من مفاهيم ترتبط بالرؤية الشيعيّة للدولة الإماميّة!

 

… نحن إذن في مرحلة الخيارات الوجوديّة المصيريّة.

 

نحن عند المفترق الحاسم! … وما نسمعه هو جرس انذار!

 

(*) باحث في الفكر الجيو سياسي