يُخيّل لبعض شياطين السياسة أنّهم قادرون على العودة إلى المقالب والخُزعبلات التي تطبّعوا بها في كل مرّةٍ يصلون فيها إلى مأزقٍ سياسي أو إلى إنسدادٍ في أفق مناوراتهم الفسادية. وكما ورد في العلم الإجرامي «المُجرم يعود دائماً لساحة جريمته»، يعتقد ميشال عون، بعقليّته الإستخفافية بالناس، أنّ العودة الى البدء متاحة له ساعة يُريد، أي إلى إنطلاقته حين نجح بخداع الشعب بالشعارات التغييريّة والإصلاحية واستطاع تشويه صورة مُنافسيه بالفبركات والأكاذيب، ونذكر قولاً رهبانياً تطرّق لحالات كهذه: «الشيطان غير خلوق، يُكرّر نفسه»، فالشرّ هو ذاته في كلّ العصور والأزمان وما عودة ميشال عون للبدء إلا تمسّك بخطيئته ورفض للتوبة.
وبعودةٍ سريعة لسيرة عون السياسية نرى بوضوح أنّه لم يعمل يوماً لهدفٍ وطني شامل أو لصالح المجتمع اللبناني أو لحقوق الفئة المسيحية أو للشراكة الوطنية، فبالنسبة له كلّ هذه المعايير الوطنية يعتبرها أحجار شطرنج يُحرّكها حسبَ حساباته الشخصية وتطلّعاته السلطوية، ويعْتليها كمطيّةٍ للمساومة من موقع القوة مع زعماء البيئات اللبنانية الأخرى. فباستخدامه الخطاب الطائفي العصباني المسيحي وتخويف المسيحيين من العددية المُسلمة ومن الأنانية عند بعض الزعماء المُسلمين إستطاع فرض نفسه المتكلّم باسمهم والمُمثّل الأقوى لهم، وقد استكان المسيحيون له في فترةٍ سابقة لشعورهم بالحماية من خلال خطابه العالي النبرة.
ولكنّ عون ذهب بهذه الثقة العمياء لعقد تسوياتٍ ومساوماتٍ لصالح تسلّطه وتزعّمه الجائر على المجتمع والبلاد والمؤسّسات، ولدفعه عن سابق تصوّر وتصميم بالدولة إلى المفهوم الزبائني والشخصاني والقمعي، ما أدّى إلى إيقاع لبنان في المسار التقهقري الذي أصاب كافة القطاعات الخدماتية. عاون محور الممانعة مُخطّطات عون الجهنّمية ما ساعده في تمكين قبضته على البيئة المسيحية بالتسويق لصورته، الزعيم الحامي لحقوق المسيحيين من خلال تحالف الأقلّيات، كما من خلال تقديم الهدايا النيابية والسلطوية له على مدار السنوات الماضية والإستحقاقات الوطنية.
مع وصول عون الى رئاسة الجمهورية، «ذاب الثلج وبان المرج» وظهر فوراً على حقيقته وانكشفت مخطّطاته الخبيثة الساعية لتغيير الدستور بالممارسة ولفرض الحكم الرئاسي الهرمي الخاضع لأهوائه ولآرائه، والمُخوّن والمُكفّر لمناهضيه ولمنتقديه.
خرج عون من الرئاسة مهزوماً مذلولاً، لكنّ أثمان انفضاحه كلّفت الوطن والشعب الكثير، وبالرغم من خسارته لزعامته ولمكانته التمثيلية ولموقعه الرسمي، وفشله المؤكّد في كافة المسؤوليات التي تسلّمها مع فريقه النيابي والوزاري، وتكبيده المالية والخزينة اللبنانية خسائر ضخمة، فقد برّر ذلك بـ»ما خلّونا»، متوهّماً بأنّها الحجّة التي تُنقذه من المُحاسبة الشعبية الوطنية، ولكنّه تناسى أنّ صورة القويّ التي ابتدعها لنفسه قد سقطت مع «ما خلّونا»، وبهذا الشعار عبّرَ تماماً عن نياته للتفرّد بالحكم كونه لا يستطيع التفاهم مع أحد ولا يؤمن بالشراكة مع أحد. وقد سبقتها بالسقوط صفةً اخرى خدمته في البدايات وهي «نظيف الكف» إذ تبيّن للشعب اللبناني أنّه اكثر الافرقاء مشاركةً بالصفقات والتسويات والملفّات التي هدرت جنى عمره.
مع إنكشاف حججه الواهية وصل عون الى نهايات مشواره مدجّجاً بالفضائح، فتاق للعودة الى البدء حين كان الشعب يُصدّقه من دون شكوك، ويُبرّر له من دون تردّد ويؤيّد أعماله مهما كانت شرّيرة. قال نيكولو ميكيافيللي في كتابه «الأمير» الذي نشره سنة 1532 «الأمير بحاجة دائماً إلى حبّ الناس حتى يستطيع السيطرة على البلاد مهما كانت قوة جيوشه، ولكي يستمر الناس بحبّه فعليه أن لا يخدعهم بآمال لن تتحقّق».
سيطر جشع ميشال عون لحبّ الناس له ولصرخات الشعب باسمه، على فكره وأدائه، كما الشغف لإلقاء الخطابات الرنّانة والمغناطيسية مثال «يا شعب لبنان العظيم»، مقلِّداً بذلك الزعيم الإيطالي الفاشي بينيتو موسوليني الذي صرخ من على شرفة قصره امام جماهيره الفاشية «يا شعب ايطاليا العظيم» ولكن الزعيمين جرّا بلديهما الى الكوارث والمصائب والفشل، وإن كان الشعبان اللبناني والإيطالي عظيمين، فإن الزعيمين ضربا عظمة الشعبين وعملا لعظمتيهما الخاصة.
العَوْد على البَدْء لم يعد ينفعه، ليس لأنّه لم يعد يُجيد الخداع والنفاق، بل لأنّ الشعب المؤمن لن يُلدغ من الجحر ذاته مرّتين»، ورعاعه من السياسيين الموتورين الفاقدين لحسّ المسؤولية الوطنية ولأدنى مستوى من الأخلاق، والفالتين على وسائل الإعلام بكلامٍ يُشير لتربيتهم الوسخة والدنيّة، وما يُسمّى بالحرس القديم المهزوز عقلياً، سيستميتون في خلق المشاكل والإصطدامات والإدّعاء بالوقت ذاته بالمظلومية، ولكنّهم لن يجدوا بوجههم إلا فشلاً لمُخطّطاتهم، والحائط، «فلينطحوه».
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»