بعد مرحلة «إعلان النيات» بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، دخلت الساحة المسيحية في عملية اختبار مهمة، لقدرة الطرفَين المسيحيَين على التزام بنود «وثيقة الرابية»، وتعميمها لتصبح سياسة مسيحية عامة.
تقول شخصية مسيحيّة على اطّلاع واسع ودراية بتطوّر العلاقات بين «القوات» و«التيار»، إنّ أهمية هذه الوثيقة تكمن في توقيتها وظروف إعلانها على المستوى الداخلي، ولا يجوز فصلها عمّا يجري حولنا من عواصف وحرائق تفرض الحدّ الادنى من التفاهمات السياسية التي تحافظ على لبنان وتحميه من المشاريع التي تجتاح المنطقة. وتضيف: مجرد الاتفاق بين طرفين مسيحيَين قويَين على جملة من النقاط «التأسيسية»، يمثّل خطوة صحيحة في السياق العام للأحداث.
ولأنّ المخاطر أكبر من موضوع الرئاسة وقيادة الجيش والسلطة والتنافس على النفوذ، جاء لقاء الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع ليتوّج جملة من الجهود والنقاشات التي أفضت الى «إعلان نيات» عام ولا يطرق الملفات الملحة وتلك التي تحتاج قراراً وموقفاً فورياً.
ولعلّ أبرز ما تضمّنته «وثيقة الرابية» نجاح العماد عون في جلب سمير جعجع الى خياره في تصنيف اسرائيل عدواً ومحتلاً، ونجاح الدكتور جعجع في جلب ميشال عون نحو إعتراف كامل بإتفاق «الطائف» والدعوة الى تطبيقه.
أما البنود الاخرى فهي «ثوابت مسيحية» لا يقدر أيّ طرف الخروج منها او مجافاتها لأنه يخسر، كدعم الجيش ومؤسسات الدولة وإرساء مفهوم سياسة خارجية «مستقلة» كترجمة لمفهوم «السيادة» بالتفسير المسيحي للمصطلح.
العبرة بما بعد الاعلان عن الوثيقة تقول الشخصية المسيحية المطّلعة. كان واضحاً في المؤتمر الصحافي الذي أعقب تلاوة بنود الوثيقة، أنّ عون وجعجع اقتصدا في التفسير والوعود، وعبّرا بصراحة أنّ ما توصّلا اليه هو «القاعدة الاوّلية» لترتيب «البيت المسيحي» والانطلاق منه برؤية واضحة نحو البيت اللبناني والشركاء في الصيغة من المسلمين.
ولذلك يصبح ما بعد الاعلان أصعب ويتطلّب جهداً ومتابعة وتنازلات وترتيب الخطط والاولويات. لقد صار الطرفان محكومَين بالسقف الذي رسماه في الوثيقة، وأصبح المخلّ ببنودها معرَّضاً للخسارة أمام الرأي العام المسيحي.
ولدى المسيحيين رأي عام قلق وخائف، ينظر الى الفراغ في قصر بعبدا، والى الاهتراء والشلل في جنبات الدولة، والى مصير المسيحيين في سوريا والعراق، فيرى مصيره معلّقاً في السياسات والمشاريع الدولية التي لا تقيم وزناً لأحد. وهو ينتظر من ممثليه وقياداته أن يكونوا بمستوى المرحلة وعلى قدر ما تطرحه من تحدّيات.
لن تكون الوثيقة جواباً على القلق الذي يعتري الشارع المسيحي. لكنها تفتح أمامه أفقاً مختلفاً، وتعيد اللعبة الى الداخل حيث المسيحيون أصحاب «الفكرة اللبنانية»، والتي قامت أساساً على أنّ لبنان «وطن الاقليات الخائفة والمضطهَدة» في هذا الشرق.
ولا عودة للفكرة اللبنانية بمعناها التأسيسي إلّا إذا استعاد المسيحيون حضورهم عبر السلطة والدولة، الامر الذي يعيد إحياء الصيغة وبعث الحياة فيها لتكون جواباً على المخاطر المطروحة حولنا ومنها منطق «التقسيم» والشرذمة.
أوّل اختبار لقدرة «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» على ترجمة «إعلان النيات»، يتمثّل في رئاسة الجمهورية. صحيحٌ أنّ الطرفين اتفقا على تجاوز الملفات التي لن يتأمّن حولها تفاهم، ولكن هذا لا يصحّ على موضوع الرئاسة لأنه «درة التاج» في كلّ الموضوع، ولن يكون الطرفان قادرَين على تسجيل تقدّم في أيّ ملف إلّا اذا اتفقا على الملف الأهم والذي يعني المسيحيين أكثر من غيرهم.
لطالما تعرّض لبنان لمخاطر «وجودية» هددت كيانه والصيغة. ولكنه هذه المرة أمام أصعب تحدٍّ يختبره منذ تأسيسه عام 1920. ولذلك لا بدّ للمسيحيين من دور يقفز فوق العادي والتقليدي. و»وثيقة الرابية» خطوة مسيحية في اتجاه تحمّل المسؤولية واستعادة الدور.