مراجعة المواقف مهمة صعبة في لبنان، مع انها من تقاليد العمل السياسي في الأنظمة الديمقراطية. فالقاسم المشترك بين بيانات الأحزاب والتيارات، على اختلاف مواقفها، هو النصّ على أن التطورات أكدت صحة قراءتها للأحداث ومواقفها منها. والتركيبة السياسية، مع استثناءات بالطبع، تفضّل إما التراجع تحت عنوان المرونة وإما العناد تحت عنوان الثبات. لكن الوقت حان بالفعل لمراجعة المواقف. ليس من أجل تغيير كل شيء بل لاعادة النظر في ما صار ضرره أكبر من ضرورته. فلا نهاية للجدل حول ما يجوز وما لا يجوز عمله خلال الشغور الرئاسي. ولا جدوى من الجدل، مهما تكن المواقف فيه على صواب ان لم تنجح المواقف في إحداث الضغوط التي تفرض المسارعة الى انتخاب رئيس.
ذلك أن الشغور الرئاسي طال بأكثر مما يستحيل ان يخطر في بال المشترع الذي وضع مخرجاً موقتاً في الدستور هو ممارسة مجلس الوزراء لصلاحيات الرئيس وكالة. ١٣ شهراً من العجز عن انتخاب رئيس: شهران خلال المهلة الدستورية للانتخاب وأحد عشر شهراً من الشغور. والمشهد هو: رئيس في المجهول، مجلس نيابي معطّل، ومجلس وزراء مكربج، لا مقاطعة جلسات التشريع لئلا يبدو ان الشغل كالمعتاد ممكن من دون رئيس للجمهورية دفعت الى إنهاء مقاطعة جلسات الانتخاب المتكررة. ولا الكلفة الباهظة على البلد والناس سياسيا واقتصاديا وأمنيا للدوران في مأزق الفراغ تقنع أصحاب الحق الإلهي بالحاجة الى تحمّل ثمن الخروج من المأزق.
اذ حتى في ما سمي تشريع الضرورة، فإن الأولويات للمشاريع موضع خلاف. من يعطي الأولوية لقانون الانتخاب وقانون الموازنة يسمع من يقول انه لا يصح اقرار قانون انتخاب من دون ان يكون لرئيس الجمهورية رأي فيه. ومن يطالب مجلس الوزراء بتعيين قائد للجيش وقائد لقوى الامن الداخلي يسمع من يقول له ان رأي رئيس الجمهورية مهم جداً في من سيشغل هذين المنصبين. فضلاً عن ان الموافقين على ضرورة ان يعمل مجلس الوزراء والمختلفين على عمل المجلس النيابي قبل انتخاب رئيس، يعرفون الحاجة الى عمل تنفيذي وتشريعي معاً.
والواقع اننا، في غياب الرئيس، لا نملك حلولاً مثالية ولا مخارج مقبولة لكل ما يحتاجه انتظام العمل العام في المؤسسات. وليس امامنا سوى التوافق على حلول سياسية ضمن اطار وطني. لكن الأهم والأكثر الحاحاً هو انهاء ما نتجادل حوله بانتخاب رئيس. فلا مبرر لاستمرار الهرب من التسليم باستحالة انتخاب مرشح يكون وصوله الى القصر انتصاراً لمحور على آخر في الصراع الاقليمي والدولي. ولا أحد يجهل ان هذه هي العقدة الحقيقية التي يراد طمسها بالحديث عن مواصفات الرئيس القوي والرئيس الضعيف.