سيرة وانفتحت، موضوعها «بلد المنشأ» في صنع الرئاسة الأولى في لبنان، فلا بد من وضع النقاط على الحروف.
درج الكلام أن رئيس الجمهورية وسواه في مواقع الحكم في لبنان هم نتاج خارجي. وهو كلام شائع في الاوساط السياسية والإعلامية وله مكانة في أذهان الناس. مقولة الوحي الخارجي ليست جديدة، وهي الاسهل لتبرير الفشل وستر العيوب أو لإلقاء اللوم على الغير.
الواقع أن الانتخابات الرئاسية ارتبطت بموازين القوى الخارجية وعكست أيضاً المعطيات الداخلية. ومن أبرز العوامل المؤثرة في الاتجاهين:
÷ أولاً، القيادات السياسية، منها من بنى زعامة من البيئة السياسية والاجتماعية المحلية، ومنها من كان للخارج دور وازن في تكوينها.
÷ ثانياً، البيئة المجتمعية، الطائفية أو المذهبية، وقد تتأثر بالأوضاع الإقليمية بدرجات تختلف بين حالة وأخرى.
÷ ثالثاً، أهمية لبنان بالنسبة إلى أطراف الخارج. فعندما كان لبنان ساحة وحيدة للنزاعات الإقليمية، جلب اهتمام الدول الكبرى ودول المنطقة، خلافاً للاوضاع الراهنة.
÷ رابعاً، سياسات الدول المعنية بالشأن اللبناني، وهي تتبدّل لأسباب متنوعة.
لم تشهد الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال نمطاً واحداً. الانتخابات النيابية في 1943 أطلقت مسار الرئاسة والاستقلال، وكان التنافس على أشدّه بين القطبين البارزين في الوسط المسيحي، بشاره الخوري واميل اده. وفي تلك المرحلة كان رياض الصلح الشخصية السياسية الأبرز في الوسط السني، كما سواه من الشخصيات النافذة في الوسط الشيعي والدرزي. تدخّل بريطانيا، عبر ممثلها في لبنان، الجنرال سبيرز، المناوئ للجنرال ديغول لأسباب تجاوزت متطلبات السياسة البريطانية، ساهم في ترجيح كفة المطالبين بإنهاء الانتداب الفرنسي، تحالف الخوري ـ الصلح تحديداً. في انتخابات 1952، بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري في منتصف ولايته الثانية، رّجحت دمشق الكفة لصالح كميل شمعون بدلاً من حميد فرنجية. وبعد أزمة 1958، برز قائد الجيش فؤاد شهاب خياراً توافقياً للرئاسة بدعم مصري – أميركي.
وكان لهذه الشخصيات المتنافسة حضورها على الساحة السياسية، أي أن التدخل الخارجي منذ 1943 لم يأت لصالح من هم بلا حيثية شعبية أو دعم داخلي. وفي الخمسينيات كان لعبد الناصر نفوذ في لبنان لا يقل شأناً عن نفوذه في معظم الدول العربية.
في الستينيات تراجع التأثير الخارجي في الانتخابات الرئاسية. فلو قَبِل الرئيس فؤاد شهاب تعديل الدستور تمهيداً لانتخابه لولاية ثانية في 1964، لكان نال دعم أكثرية المجلس النيابي. ولم يأتِ رفض شهاب تعديل الدستور بوحي من الخارج. وجاء انتخاب شارل حلو رئيساً، مدعوماً من شهاب، وليس بسبب أي تدخل خارجي. الممر الإلزامي لانتخاب الرئيس آنذاك كان نفوذ الفريق الشهابي.
انتخابات 1970 الرئاسية، التي أدت الى فوز مرشح الوسط سليمان فرنجية بفارق صوت واحد، كانت نتاج تنافس حادّ بين الشهابيين وخصومهم، ظهرت ملامحه الأولى في انتخابات 1968 النيابية. وكان لكل من الطرفين تحالفات عابرة للطوائف والمناطق. ولم يكن للدول الكبرى أو دول المنطقة أي دور حاسم في النتيجة. الإخفاق في إيصال المرشح الشهابي يعود الى تقديرات خاطئة «للمكتب الثاني». فلو ترشح فؤاد شهاب لكان فاز في الانتخابات. بإيجاز، الاعتبارات الداخلية كانت طاغية في انتخابات 1970.
في سنوات الحرب لم يعُد لأي مسألة مرتبطة بالشأن العام مقياس بعد انهيار الدولة ومؤسساتها. وجاء انتخاب الياس سركيس في 1976 استباقياً، قبل انتهاء ولاية الرئيس فرنجيه، خياراً عكس موازين القوى السياسية والعسكرية في البلاد ونال دعماً سورياً وأميركياً. معركة الرئاسة تمثلت آنذاك بأن يتمكن النواب من أن يصلوا أحياء الى المقر المؤقت لمجلس النواب لانتخاب الرئيس. واقع الاجتياح الإسرائيلي في 1982 فرض بشير الجميل رئيساً، والاعتبارات عينها رجحت انتخاب أمين الجميل بدلاً من كميل شمعون.
في مرحلة ما بعد الحرب باتت سوريا صاحبة القرار الفاصل على المستويات كافة. انتخاب رينه معوض رئيساً كان نتاج اتفاق الطائف بدعم إقليمي ودولي. رئيسا الجمهورية في مرحلة الوصاية، الياس الهراوي واميل لحود، كانا خياراً سورياً لا لبس فيه ولا شريك، انتخاباً وتمديداً.
تبدلت الأوضاع بعد انسحاب الجيش السوري في 2005، وجاء انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان في 2008 في إطار تسوية الدوحة. ومن أسباب دعم قائد الجيش، لاسيما من الأطراف المناوئة له قبل التسوية، قطع طريق الرئاسة على العماد عون. ولم تلبث أن توضحت المعادلة المطلوبة، بدءاً بالانتخابات النيابية في 2009.
بعد انتهاء عهد الرئيس سليمان، برز العماد عون مرشحاً أساسياً للرئاسة وبلا «خطة ب». وُوجِه ميشال عون بسد منيع من المعارضين، واستند بداية الى دعم «حزب الله»، ومن ثم تبدّلت المعادلة. فبعد المصالحة مع «القوات اللبنانية» استُنفدت حجج الرافضين الذين ربطوا موقفهم من العماد عون بالانقسام داخل الصف المسيحي. ومع ترشيح سليمان فرنجية سقطت الذرائع السياسية المعارِضة لعون. وبعد تعثر هذا الخيار، استعاد الرئيس الحريري المبادرة بدعم ترشيح العماد عون وسقطت العوائق الممانعة لانتخابه.
أما «الخارج» فكان له مسار آخر. في الماضي القريب كانت سوريا تسمّي الرئيس «المنتخب». وفي 2008 جاءت التسمية من مصادر عديدة ومعها التسوية التي كان لتركيا ولغيرها مساهمة في إنضاجها. إما اليوم فلأطراف الخارج أولويات أخرى. سوريا ساحة حروب مدمرة، وفي السعودية تحديات غير مسبوقة، في الداخل ومن الخارج. وفي إيران مسار مصالحة مع المجتمع الدولي. وفي الولايات المتحدة انتخابات رئاسية، وقبلها سياسة ترقب وحذر تجاه أزمات المنطقة.
كما أن وظائف لبنان المعهودة تبدلت. فلبنان اليوم ليس ساحة وحيدة للنزاع العربي – الإسرائيلي، ولم يعد مؤشراً لبورصة النزاعات بين أنظمة عربية لم تعد قائمة. الدول الكبرى مهتمة بأزمة النزوح السوري، والإرهاب يتم التصدي له في العراق وسوريا. بإيجاز، الأسباب التي أدت في الماضي الى تدخل خارجي في الشأن الرئاسي تراجعت الى حدود دنيا.
وإذا سلّمنا جدلاً بمقولة التوافق السعودي – الإيراني أو بأي دور خارجي حاسم في الانتخابات الرئاسية، فلماذا تمت التسوية الآن وليس قبل هذا التاريخ؟ وما الذي حصل كي تحسم إيران موقفها أو السعودية خيارها؟ ولماذا تدعم السعودية عون ولا تؤيد الحريري؟
الاستحقاق الرئاسي في لبنان لا يؤثر في المعادلة السياسية الإقليمية ولا طبعاً في موازين القوى العسكرية. أما الذي يقدم ويؤخر فهو المعادلة الداخلية، لاسيما بعدما تأكد المعنيون عدم اكتراث «الخارج» قياساً الى مرحلة الوصاية وسنوات الحرب.
فلولا صمود العماد عون وتشبّثه بموقفه، المدعوم شعبياً، وتبدّل المعطيات الداخلية بعدما نال دعم أطراف الداخل، وإن لأسباب متعارضة، لما تمّ الانتخاب. هذا الواقع ساهم في إنضاج المعادلة الداخلية وليس وشوشة سفير أو ابتسامة مستشار أو مكالمة هاتفية من أي جهة أتت. ثمة فارق كبير بين رئيس يهبط على اللبنانيين بقرار من الخارج، ورئيس يلقى انتخابه ترحيب هذا الطرف الخارجي أو ذاك.
التاريخ لا يعيد نفسه معظم الأحيان. زمنا المتصرفية والوصاية وما بينهما انتهيا، وإن لم تتبدل العادات والشعارات. انتخابات الرئاسة في 2016 غير مسبوقة في مسارها الداخلي واعتباراتها وتوازناتها، وهي أيضاً غير مألوفة لجهة الأوضاع المحيطة بلبنان وسياسات الدول الكبرى.
كل جوانب puzzle الرئاسي المعهود، من س – س الى حروف الأبجدية الأخرى، معطلة لأسباب غير مرتبطة حصراً بلبنان، ولا بتلاقي الأديان والحضارات أو تصادمهما. ليس مستحيلاً أن يصبح لبنان بلد منشأ رئيس الدولة فيكون للبنانيين دور وازن في انتخابه خدمة للمصلحة الوطنية.