بين اتّصالٍ ولقاءٍ هنا، وبين تشاورٍ وغداءٍ وعشاءٍ هناك، لا وضوح للصورة بعد، وبالتالي يبقى الاستحقاق الرئاسي معلّقاً على حبل التكهّنات إلى ما شاء الله.
فالنتيجة الفورية التي رافقت عودة الرئيس سعد الحريري ومشاوراته الرئاسية مع القوى السياسية، أنّه استطاع أن يفرز الواقع الداخلي بين:
– فريق متحمّس، يعتقد أنّ عودة الحريري «حاسمة»، وخياره الرئاسي سيعجّل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وضمن المهلة التي يتحدّث عنها بعض القريبين منه، والممتدّة من الآن وحتى نهاية السنة الحاليّة… المهم قبل آخر السنة!
– فريق مستعجل، خابَ أمله لأنّ الحريري لم ينطق بالجملة السحرية بعد: «أنا أرشّح النائب ميشال عون». فمجرّد نطقِ الحريري بهذه الجملة، سيشكّل مناخاً يجرف كلّ البلد ولن يستطيع أحد إيقافَه.
– فريق رافض أساساً وصولَ أيّ من شخصيات «8 آذار» أو عون إلى رئاسة الجمهورية، خاب أمله من أنّ الحريري لم يعلن بعد، أو تأخّر في إعلان قراره الذهاب إلى مرشّح ثالث غير النائب سليمان فرنجية وعون.
– فريق متروٍّ، ينطلق من قاعدة «ما تقول فول ليصير بالمكيول»، فيرى أنّ من المبالغة استباق الأمور والركون إلى التسريبات أو الوشوشات المتدحرجة من الدائرة المحيطة بالحريري أو من خارجها بأنّه قد حسَم خيارَه في اتّجاه تبنّي ترشيح عون، إذ إنّ حركتَه في ظاهرها كما في باطنها تُبقي بابَ الاحتمالات والخيارات مفتوحاً، سواءٌ على استمرار التمسّك بترشيح فرنجية أو على خيار ثالث.
– فريق مشكّك، يرى أنّ الحريري يُناور.
– فريق مشكّك أكثر، يَعتبر أنّ الحريري لا يستطيع أن يناور، لأنّه لم يعد يملك القدرة على ذلك، ولأنّ من يُناور يجب أن يكون قادراً على ذلك، والشرط الأوّل لهذه القدرة أن يكون مرتاحاً، فهل الحريري مرتاح ساسياً أو على أيّ مستوى غير سياسي؟
– فريق مشكّك أكثر فأكثر، ويرى أنّه لو كان الحريري يملك القرار والتغطية من صاحب القرار، لَما كان في حاجة إلى اتّصالات داخلية مع أيّ كان، بل لَكان أعلنَه بلا تردّد، وتاريخ الحريري يَشهد على محطات كان يملك فيها التغطية المباشرة من صاحب القرار، وقرّر فيها وحده من دون العودة إلى أحد، وبمعزل عن الآخرين. ولعلّ أبرزها ذهابه إلى سوريا واللقاء مع الرئيس بشّار الأسد.
كان يتّخذ القرار وكلّ فريقه يتبعه كما حصَل في ترشيحه رئيسَ حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ثمّ حواره الأوّل مع عون، ثمّ في مبادرته بترشيح فرنجية.
وسيلحقه فريقه في أيّ قرار يتّخذه. من هنا فإنّ حركته هي حركة الذي لا يملك القرار، وما يقوم به داخلياً ليس أكثر من انتظار أن تحين لحظة التلاقي بينه وبين «صاحب القرار»، لكي يحصل على الضوء الأخضر، وفي ضوئه يتّخذ القرار ويُعلنه. وفترة الانتظار هذه، ليس أفضل أن يغطّيها، من القيام بـ«اتصالات شكلية»، إنْ لم تكن مجدية ونافعة، فلن تكون مضرّة.
– فريق متفهّم للحركة الحريرية، يُصدّق أنّ الحريري يفكّر جدّياً في الانتقال إلى خيار رئاسي جديد (ربّما عون أو غيره)، لأنّ خياراته صارت ضيّقة جداً، ولأنه في سباق جدّي مع الوقت تبعاً للظروف التي استجدّت لديه على كلّ المستويات.
– فريق واقعي، لا يرى أنّ الملفّ الرئاسي ينتهي إيجاباً بالذهاب إلى انتخاب رئيس، بمجرَّد أن يُحدِّد الحريري خيارَه الجديد، إذ إنّ هناك مساراً يَنبغي سلوكه لكي يصل هذا الاستحقاق إلى خواتيمه الإيجابية.
– فريق عون بدا محقوناً بمعنويات كبيرة، أكثر من ذلك، بدا وكأنّه انتقل إلى مرحلة «النشوة الرئاسية»، على اعتقاد أنّ عودة الحريري ومشاوراته ستفضي في النهاية، وفي القريب العاجل، إلى تقديم مفتاح القصر الجمهوري إلى عون. حتى إنّ هناك من بدأ ينسب كلاماً لعون مفادُه: «أنا الرئيس»؟!
– فريق فرنجية، من الطبيعي ألّا يكون مسروراً لتعرّضِ مبادرة الحريري بترشيحه للاهتزاز، لا بل لمجرّد أن يقال إنّ الحريري قد يفكّر في لحظة ما باحتمال الذهاب إلى خيار آخر غير رئيس تيار «المردة».
ومن الطبيعي أيضاً تبعاً لتطوّرات حركة الحريري أن ينتقل هذا الفريق إلى التمترس خلف المتراس الرئاسي لتأكيد ترشيح رئيسه بمعزل عن أيّ أمر آخر، وإلى دقّ جرس الإنذار المبكر والتحذير من الإقدام على ما قد يكون مبعَثاً للندم في المستقبل، ومن هنا جاءت تغريدة فرنجية لتوضَع في يد الحريري تحديداً وتذكيره بما أصاب الرئيس أمين الجميّل بعدما أنهى ولايته الرئاسية وغادر قصر بعبدا بعدما كلّف عون رئاسة الحكومة العسكرية في 23 أيلول 1982. يومها لم تمضِ عشرة أيام إلّا وكان الجميّل خارجَ لبنان بدفعٍ بالتضامن والتكافل بين عون وجعجع!
بالتأكيد من شأن هذا الاحتمال، إن تُرجم جدّياً، أن يُحدث خيبةً كبرى لدى مؤيّدي فرنجية الذين يرفضون بشكل قاطع أن يكون «ضحية» أو حتى مجرّد أن يذهب البعض إلى تصويره كـ«ضحية». فهو كان وسيبقى رقماً عالياً مسيحياً ووطنياً وزعامة مستمرّة.
ويرفضون بالتالي «المنطق الاسترضائي» الذي بدأ يقال في بعض الزوايا السياسية من أنّ فرنجية يجب أن يكون شخصية براغماتية ويتحلّى بالروح الرياضية، فهو ما زال في مقتبلِ العمر، وبالتالي فإنّ الترفّع يفرض عليه أن يسارع إلى التكيّف مع الوقائع الجديدة!
تبعاً لِما تقدّم، ماذا لو أعلن الحريري الذهابَ إلى خيار رئاسي آخر، سواء عون أو غيره، وما هي الأثمان التي قد تترتّب على ذلك؟
أوّلاً، يجب لحظ أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي دفعَ الجلسة الانتخابية المقبلة إلى آخر تشرين الأوّل المقبل، وهذا معناه «شهر عطلة رئاسية» بلا جديد.
ثانياً، إحتمال ذهاب الحريري إلى خيار عون أو خيار آخر ما زال في دائرة الوشوشة في الدائرة المحيطة بالحريري، ولم يصل بعد إلى حالة الإشهار العلني، وقد يتم ذلك قريباً، وقد لا يتمّ.
ثالثاً، حتى لو أعلنَ الحريري رسمياً ذهابَه إلى عون أو إلى خيار آخر، فالمسألة هنا ليست نصاباً عددياً، بل هي نصاب سياسيّ، فهل هو متوافر؟
رابعاً، حتى لو اكتملَ النصاب العددي والسياسي، فهناك معبَر إلزامي لا بدّ مِن سلوكه.
هو معبَر التفاهمات التي تحدّث عنها برّي وصولاً إلى بناء الركائز والتحصينات التي تُحصّن العهد الجديد، ولا تَجعلنا نأتي برئيس نصلبه على حدّ تعبير برّي. وجوهر التفاهمات هذه هو التلازم بين المسارات؛ المسار الرئاسي والمسار الحكومي ومسار قانون الانتخاب… النقاش هنا، والألغام هنا، وحبكة كلّ التفاصيل التي تشكّل رافعةً للعهد تحتاج إلى وقت، فمن سيدفع الحكومة ومن سيدفع في القانون الانتخابي، أمّا الشيطان فيَكمن دائماً في التفاصيل.