هل من هبات القدر، أو من ضرائبه، أن تتحول كل انتخابات رئاسية إلى معركة يرتج فيها «الكيان» وتهتز ركائز الوحدة الوطنية؟! مع ان المرشحين لها جميعاً من المواطنين الموارنة لا يكاد أحدهم يختلف عن الآخر في «الجوهري» من المواقف السياسية، وان تبدت فروق في التحالفات أو في «جشاذبية» هذا المرشح أو ذاك في العين الخارجية، كفرنسا ـ بريطانيا في الماضي، مع شيء من التزكية العربية (السورية ثم المصرية ثم السورية ـ السعودية مع عدم ممانعة مصرية ثم السورية ـ السعودية مع الرضا الأميركي دائماً).
بعد الحرب الأهلية ـ العربية ـ الدولية أمكن الوصول إلى صيغة توافقية لا تبدل في طائفة الرئيس الأول، ولكنها تحاول تحديد صلاحياته بحيث يكون رئيساً لكل اللبنانيين، مارونيا بالضرورة، لكنه المعتدل، المؤمن بوحدة الشعب كما بثبات الكيان بنظامه الفريد، وبهوية عربية «مخففة» حتى لا تتهدد مخاطر الوحدة أو الدمج أو التذويب في الكيانات العربية الأخرى.
مع ذلك، صارت عملية انتخاب جديد لرئاسة الجمهورية، بعد اتفاق الطائف، أشبه بحرب كونية، داخل الطائفة التي شُرّفت بالرئاسة الأولى، ثم عبر التحالفات السياسية التي تسبق الانتخابات الرئاسية وتواكبها فيصطرع الجميع عبر التنافس المشروع لتنتهي ـ في الغالب الأعم ـ بوصول من لم يكن مرشحاً من داخل النادي السياسي، بل هو «القائد» في المؤسسة العسكرية إلى سدة الرئاسة (كما علّمتنا التجارب مع الرئاستين السابقتين..)
صار كل قائد للجيش مرشحا محتملاً لرئاسة الجمهورية، سواء أكانت له منزلة الرئيس الراحل، وأول قائد للجيش في جمهورية الاستقلال الأمير اللواء فؤاد شهاب، أم لم تكن له مثل تلك المنزلة، ولكنه يشكل عنواناً لتسوية اضطرارية بعد عجز أي من المرشحين الطبيعيين، أي المدنيين من أهل السياسة عموماً، وأهل الإدارة استثناءً، مثل الرئيس الراحل الياس سركيس، في الوصول إلى السدة باللقب المفخم.
لبنان السياسي الآن، وفي غمرة الاحتياج لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيش حالة غير مسبوقة: فالقائد الأسبق للجيش، والذي أوكل إليه الرئيس الذي انتهت ولايته، وفي الساعة الأخيرة من اليوم الأخير، رئاسة حكومة عسكرية، استقال نصف أعضائها المسلمين فور إعلان تشكيلها، والذي خاض حربين، واحدة ضد الجميع، بعنوان «الاحتلال السوري» وثانية ضد التنظيم المسيحي الأقوى حينذاك، «القوات اللبنانية»، وريث الكتائب وتنظيمها العسكري الذي أنشأه بشير بيار الجميل، هو المرشح الأقوى نسبياً، لرئاسة الجمهورية.
لكن الأقوى نسبياً ليس بالضرورة الأقرب إلى الرئاسة الأولى، كما علمتنا التجارب… بل إن التحالفات المحلية، معززة بالدعم الدولي، واستطراداً العربي، هي المؤهلة لأن «تنتج» صاحب الفخامة المؤهل لأن يشغل الكرسي الرئاسي الفارغ حالياً منذ سنتين ونصف إلا قليلاً..
ومن الواضح أن «الدول» مشغولة عنا، سواء في ذلك البعيدة، كالولايات المتحدة، أو القريبة مثل السعودية وسوريا التي لمّا ينعدم تأثيرها، فضلاً عن إيران التي باتت عضواً صاحب صوت مرجح في أمر خطير كالرئاسة في لبنان.
من هنا تتحول «المعارك الرئاسية» إلى حروب في الهواء… فلقاءات التهدئة وتطييب الخواطر والدعوة إلى الصبر الخ لا تصنع رئيساً.
مع ذلك، فكلما مر المزيد من أيام الفراغ في قصر بعبدا، يسود جو من التوتر المفتعل، الذي لا يبدل في سياسات الدول، ولا حتى في مواقف الأطراف والقوى السياسية المحلية… ويسمع اللبنانيون خطابات وتصريحات مهتاجة، لا تتورع عن استخدام الشعارات الطائفية، بل هي قد تصل إلى حد التهديد بالفدرالية أو باستقلال كل طائفة عن الأخريات، عبر قانون انتخاب تقسيمي على قاعدة طائفية بل مذهبية.
لكأن الرئاسة قد غدت أهم من الجمهورية، والنيابات قد غدت أهم من وحدة الوطن ودولته..
ومؤكد أن المعارك الوهمية، أو المبنية على حسابات خاطئة أو تقديرات عشوائية لا توصل من يخوضها إلى الرئاسة الأولى، وإن كانت قد تضعف هذه الرئاسة التي تسقط في سوق المزايدات والمناقصات، والذي يجد من يقدر له الوصول إليها انها لا تستحق كل هذه «التضحيات» التي تحسم من قيمة الوطن ودولته. خصوصاً وأن الصراعات حول موقع «صاحب الفخامة» فيها الكثير من الإساءة إلى هذا الموقع عبر تعريضه لما لا يليق به وبشاغله، سواء أكان على رأس قائمة المرشحين الطبيعيين أم «فلتة شوط»، على ما يقول اللبنانيون المشغولون بلقمة عيشهم وموجبات استقرارهم في وطن الأرز أو تفضيل الرحيل عنه إلى أي مكان يقبلهم، حتى لا يتعرضوا لمثل هذه المهانات مع كل انتخابات رئاسية..
عشتم وعاش لبنان (مع الاعتذار من الرئيس العتيد..).