إذا ما نظر أيّ مراقب إلى صورة المشهد الرئاسي، وما يحيط به من تعقيدات، وتباينات، وتجاذبات، لأمكنه القول بقدرٍ عالٍ من الثقة بأن لا انتخابات رئاسية في المدى المنظور.
ثمة مؤشرات كثيرة تدعم هذا القول، وبعضها يذهب إلى الحدّ الأعلى من التشاؤم، وينعى إمكان انتخاب رئيس الجمهورية خلال ولاية المجلس النيابي الحالي. قد يُعتبر ذلك إفراطاً في المبالغة، ولكن هل ثمة على الأرض ما يؤكّد عكس ذلك؟
فقد مضت 7 أشهر على انتهاء الولاية الرئاسيّة البرتقاليّة، ولا يزال النقاش محبوساً في دائرة مزدحمة بخليط عجيب غريب من المعطّلات؛ بهلوانيات سياسية، نفخ أحجام، صبيانيات، محاولات تذاكي وتشاطر، عرض عضلات سياسية وطائفية وشعبوية، تباهٍ بالقدرة على التعطيل، هروب متعمّد من مسارات البحث العقلاني عن حلول، وصولاً إلى إغلاق متعمّد ايضاً لكل مجالات الأخذ والردّ والايجابي والهادئ. وضمن هذه اللعبة العبثية المستمرة منذ بداية تشرين الثاني من العام الماضي، يشحذ فيها بعض أطراف هذه اللعبة سلاحه وفق منطق تصفية الحسابات، ولا يبدو أي منهم مستعداً لإجراء مقاربة موضوعيّة وواقعية لأزمة الرئاسة، تُنزله عن شجرة التوهّم بأنّه يشكّل محور الحلّ والربط فيها.
مع هذه اللعبة المتمادية انحدرت هذه الأزمة من كونها أزمة الرئاسة إلى مأزق حقيقي، فتحه العبث القائم على انحدار أعمق ليس في الإمكان تقدير مداه. مأزق كل مفاتيحه ضائعة، فلا مجال للتفاهم الداخلي، وهذا الامر يُسقط تلقائياً مقولة انّ الحل الرئاسي يمكن ان يكون صناعة محلية.
كما لا يبدو انّ ثمة إرادة داخلية للتجاوب مع مساعي الخارج، والتفاعل مع مناخات التقارب والإنفراجات الاقليمية. فالداخل، بكل أطرافه المتصارعة على الحلبة الرئاسية حالياً، شاطر فقط في تلقف توتّرات المنطقة وتشنجاتها وانقساماتها وكل ما يؤسّس للفتن السياسية والطائفية والمذهبية ويعمّقها، ويكون السّباق إلى الشراكة فيها وترجمتها على أرض الواقع اللبناني. وعصي على تلقف مناخات التقارب والانفراج والتفاعل معها، بما يخدم خروج لبنان من أزمته، ويعزز أمنه واستقراره ويمكّنه من التقاط أنفاسه وإعادة الانتظام لحياته السياسية.
يُستخلص من هذه الصورة، انّه حتى الآن لا يوجد ضوء داخلي في النفق الرئاسي، وما حُكي عن صيف رئاسي لا يعدو أكثر من حكي فارغ، وبالتالي فإنّ السيناريو الأقرب إلى الصوابية والواقعية، هو انّ انتخابات رئاسة الجمهورية ما زالت بعيدة المنال، وقد يمضي الصيف وما بعد الصيف وما بعد بعد الصيف دون تغيير في هذا الوضع الشاذ، الّا إذا حدث انقلاب مفاجئ فرض على معطّلي هذه الانتخابات التراجع ولو خطوة إلى الوراء والالتحاق بمسار التوافق على انتخاب رئيس، وهذا بالتأكيد ليس وارداً على الإطلاق، لا بل هو من سابع المستحيلات.
وإذا كان ثمة من يعتقد جازماً انّ قطار الانفراجات الاقليمية قد انطلق من الاتفاق الايراني- السعودي، ولن يستطيع أحد ان يوقفه، وسيصل إلى لبنان حتماً، ناقضاً بذلك ما يروّج له بعض المغالين في الداخل، من أنّ ما عُلّق من آمال على الانفراجات والتحوّلات الاقليمية، ما كانت سوى رهان على أوهام. الّا انّ وصول هذا القطار إلى لبنان، وكما تؤشر الوقائع العربية والاقليمية، رهن باكتمال عناصر هذا الانفراج، وبتبلور أفقها وما سترسو عليه في الساحات التي يُفترض انّه يشملها، بدءاً من ملف اليمن الذي يكتنفه شيء من «الغباش»، وصولاً إلى الملف السوري الذي لم تطوَ تعقيداته المتراكمة منذ ما يزيد عن إحدى عشرة سنة، برغم الانفتاح العربي على سوريا وعودتها إلى الجامعة العربية.
معنى ذلك، انّ ثمّة حاجة إلى مزيد من الوقت لاكتمال عناصر الانفراج الاقليمي، ولبنان بالتالي في موقع المنتظر، ومزيد من الوقت معناه لبنانياً في جو الانقسام القائم حالياً، مزيداً من «النقار السياسي» في الداخل على الفاضي وعلى المليان، وهو ما يتبدّى حالياً في ما يجري من حراكات ومناورات على خط الترشيحات لرئاسة الجمهورية.
ليس خافياً انّ كل تلك الحراكات انطلقت في مواجهة سليمان فرنجية الثابت في موقعه المتصدّر نادي المرشّحين، والمدعوم من ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله» وحلفائهما، ومؤيّداً بدعم فرنسي واضح أثار غضب المعارضات. في ما سبق، كانت تلك الحراكات مشتتة، «القوات اللبنانية» وحلفاؤها ممّن يعتبرون أنفسهم سياديين واستقلاليين وتغييرين، جرّبوا مع ترشيح ميشال معوض وفشلوا، واستحال عليهم جذب المعارضات إلى الاتفاق على مرشح معين، فيما انخرط «التيار الوطني الحر» في مسار التصويت بالورقة البيضاء.
وأما ما بعد التطورات الاقليمية، وتسارع الجهود الدولية وتصدّر باريس لمسعى التسريع في الحسم الانتخابي مع ميل واضح في اتجاه فرنجية، اتخذت هذه الحراكات شكلاً آخر، حيث ركّزت علناً على محاولة تبنّي مرشح يجمع عليه، إن لم يكن كل المعارضات، فالشريحة الأكبر منها في وجه فرنجية، وامّا في جوهرها فصبّت في هدف حمل الإدارة الفرنسية على التخلّي عن خيار فرنجية، والانتقال إلى دعم خيار آخر. والعارفون هنا بتفاصيل الموقف الفرنسي وخلفياته يستبعدون ان تعيد باريس النظر في خياراتها.
من هنا، جاء طرح إسم الوزير السابق جهاد ازعور كمرشح يمكن أن تجمع عليه تلك المعارضات، ولكن حتى الآن لم يتحقق هذا الإجماع، وقد لا يتحقق برغم كلّ ما يُروّج له من استعدادات من هنا وهناك لتبنّي إسم ازعور، وخصوصاً انّ إمكانية الاتفاق هشّة في الجانب المسيحي بشقيه «القواتي» و»البرتقالي»، اولاً لانعدام الثقة ببعضهما البعض، وثانياً لأنّ لكلّ منهما، كما لسائر المعارضات التغييرية والسيادية والاستقلالية، توجّهاته ونواياه المتناقضة بشكل جذري مع توجّهات ونوايا الآخر.
قد يعتبر المتحمسون في المعارضات، انّ ازعور يشكّل الخيار الافضل لرئاسة الجمهورية في هذه المرحلة، حيث لا يشكّل انتخابه تحدّياً لأحد، ولكن قد يأتي من يسأل في المقابل، هل انّ ازعور مرشّح جدّي لهذه المعارضات لإيصاله إلى رئاسة الجمهورية؟ وهل انّ هذه المعارضات إن اجتمعت كلها، قادرة على تأمين نصاب انعقاد جلسة نيابية لانتخابه؟ ام انّها تحاول ان تستخدمه «مرشح اختبار» وأداة فقط، لمواجهة فرنجية؟ وهل انّ ازعور الذي يقدّم نفسه على انّه ليس مرشح تحدٍ لأحد، لا للثنائي الشيعي ولا للوزير سليمان فرنجية، يمكن ان يقبل بهذا الوضع، وبتحويل نفسه إلى جسر تعبر عليه مصالح وأهداف الآخرين فقط لاستهداف فرنجية، فيما هو في النهاية لن يصل إلى مكان، وسيخرج من هذه اللعبة من دون أن يحظى حتى بقضمة صغيرة من قالب الحلوى الرئاسي؟ad
رهان بعض المعارضات في هذه اللعبة، هو على أن تحشر داعمي فرنجية في الزاوية، ووضع ثنائي «امل» والحزب في الموقع الذي يفرِض خياراته على الآخرين، ولكنّه في نظر الثنائي، رهان يندرج في مسلسل الرهانات الخاسرة، فهم في الأساس يتهموننا على الفاضي وعلى المليان، فليقولوا ما يشاؤون، والمناورة التي يحضّرون لها عبر تبنّي الوزير ازعور ندرك هدفها، لن ينالوا منها سوى التعب، موقفنا حاسم ونهائي بأنّه لو اجتمعت كل الدنيا لن نتراجع عن دعم ترشيح الوزير فرنجية، الذي يحقق انتخابه في نظرنا مصلحة للبنان وللجميع.