تمادي الفراغ في سدة الرئاسة الأولى في لبنان، يستولد فراغاً في مختلف المؤسسات الدستورية والبلدية، وكبحاً وتعطيلاً لآليات عمل مختلف المؤسسات الإدارية والقضائية والأمنية، ما يترك البلاد تحت رحمة الفوضى المنظمة، والشعب في حال العوز والقلق على المصير، إلى أن يأتي الترياق الوهمي من خماسية أو سداسية، أو انتظار تسويات دولية للأزمات الإقليمية ربما يصيب لبنان شيء منها!
ساد الاعتقاد في لبنان أنّ للخارج دائماً يداً حاسمة في انتخاب رئيس الجمهورية. الإطلاق في هذا الاعتقاد ملتبس، وتدحضه تجربتان: واحدة قريبة، تمثّلت بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بعدما عطّل «حزب الله» الانتخابات الرئاسية لمدة سنتين ونصف السنة تقريباً، ثم انتخب عون بقرار وطني لبناني وخلافاً لأهواء الخارج، القريب والبعيد، بصفقة معراب المارونية التاريخية. والتجربة الثانية كانت عام 1970، عندما حسم التحالف السياسي الماروني «بيار الجميل- كميل شمعون- ريمون إده» خياره بانتخاب سليمان فرنجية ضد الياس سركيس الشهابي – الناصري.
ما يقوم به «الثنائي الشيعي» من تعطيل لنصاب جلسات الانتخاب، في محاولة منه لفرض مرشحه للرئاسة لعدم توفر الأكثرية لديه، هو من دون أدنى شك مخالفة صارخة للدستور، وتكرار لما فرضه في اتفاق الدوحة حول التوافقية والثلث المعطّل من خلال دعوته للتوافق على اختيار رئيس للجمهورية. وفي المقابل تغيب مشهدية معراب 2016 عن حلبة الصراع الرئاسية التي أمّنت انتخاب الجنرال عون، لتحل محلها صيغة مناوراتية «التقاطع على جهاد أزعور»، التي كانت معروفة النتائج مسبقاً.
وهنا لا بد من طرح السؤال: ما العمل للخروج من هذا المأزق المدمّر للبلد الذي تعصف به الأزمات من كل حدب وصوب، وبإقرار الجميع أن انتخاب رئيس للجمهورية هو أول الغيث لإعادة الحياة في شرايين الدولة؟
من وجهة نظري، إنّ «الثنائي الشيعي» يستند إلى عدم وجود خصم قادر على خرق التوازنات النيابية، فيتمسّك بمرشحه مراهناً على الوقت والعمل على اجتذاب نواب لصفوفه من الكتل المختلفة، وإرضاء الخارج المؤثّر على بعض قوى الداخل، وهو صاحب تجربة ناجحة، عندما فرض ميشال عون رئيساً. وفي المقابل، «الثنائي الماروني» سمير جعجع – جبران باسيل، أي الكتلتان المسيحيتان الأكبر، يستسيغان الفراغ على ما يبدو، بانتظار ما قد يستجد لمصلحة كلٍ منهما.
جبران باسيل الذي ارتبط بصفقة قطر- توتال، تأمّل في تسهيل صفقة الترسيم البحري مع إسرائيل، رفع العقوبات عنه تمهيداً لترشحه للرئاسة. بينما إيران حصدت ثمن الترسيم بـ»قبة باط» أميركية عن رفع انتاجها النفطي من نصف مليون برميل إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً، فسهّل «حزب الله» لعون الرئيس وباسيل الترسيم. والأخير لا زال ينتظر على قارعة الطريق، ويغرق في أزمة تياره الداخلية.
أما جعجع المتزعّم لجبهة معارضة مسيحية الطابع، تجاوز مبادرة «التغييريين» بداية، الداعية لاختيار مرشح من سلة أسماء تضم 3 مرشحين لا يشكلون تحدياً لأي فريق «صلاح حنين، زياد بارود، ناصيف حتي»، وبادر إلى دعم ترشيح ميشال معوض من فريقه المعارض، وهو يعلم مسبقاً أنّ ما يمكن أن يجمعه من أصوات لا يمكن أن يتجاوز الـ44 نائباً، خاصة في ظلّ معارضة «التيار الوطني الحرّ» له.
ثم انتقلت مناورة «الثنائي الماروني» إلى بدعة «التقاطع» على ترشيح جهاد أزعور، المعروفة النتائج مسبقاً، لأنّ التقاطع لم يُبن على خيار سياسي محدد بين المتقاطعين والمتقاطع عليه. مع ذلك بادر «الثنائي» إلى تعطيل الدورة الثانية من الانتخاب وبتواطؤ من باسيل.
وبدل أن يعاد تكرار تجربة التقاطع بعد بروز نقاط الخلل فيها لتصليبها سياسياً وبرنامجياً في كيفية إدارة الحكم، غاب التقاطع، والمتقاطع عليه، وفتحت الجبهات مجدداً بين المتقاطعين، تحديداً ببن «التيار» و»القوات»، ما يؤكد صحة ما أشرت إليه، بأنّ التقاطع كان مناورة اختبار لا أكثر ولا أقل. وأزعم أنّ باسيل وجعجع لم يخرجا من وهم أنّ الرئاسة يجب أن تكون من نصيب أحدهما، باعتبار أنهما يتزعمان أكبر كتلتين نيابيتين مسيحيتين.
كما أزعم، أنهما لا يزالان يراهنان على تغيّرات في المشهد الإقليمي قد تفضي إلى تعويم أحدهما. وإلا لماذا لا يوحّدان جهودهما والتزام الثبات على مرشح يدعمانه فيُحرجان الثنائي الشيعي باسم الميثاقية التي طالما اعتبراها من أعمدة النظام اللبناني، ويضعان حداً لاستفراد الثنائي بإدارة البلاد؟
وإذا تجاوزنا هذه المعادلة، وتجاوزنا تجربة باسيل الفاشلة في الحكم، والأزمة الداخلية التي يتخبط فيه تياره، لماذا المعارضة التي يتزعمها جعجع لا تقدم على خطوات تعيد الاعتبار للعامل الداخلي في هذا الاستحقاق اللبناني، أي للقرار الوطني المستقل عن الارتهان للخارج، فيحضر نواب المعارضة الـ44 الذين وقعوا البيان المشترك مع نواب التغيير إلى المجلس النيابي ويعتصمون بالقاعة العامة التزاماً بقواعد الدستور، حيث أنّ المجلس هو هيئة ناخبة بحكم القانون من تاريخ 29/09/2022، فينضمون إلى ملحم خلف ويشاركهم في ذلك نواب التغيير، ويحرجون في ذلك أيضاً العديد من النواب المستقلين. على أن يترافق ذلك بدعوة جمهورهم واللبنانيين الحريصين على إنهاء الفراغ في سدة الرئاسة إلى الاعتصام في الشارع خارج المجلس. وهنا أعتقد جازماً أنّ المشاركين في تحرك من هذا النوع من البيئات غير المسيحية وتحديداً من البيئة الشيعية المعارضة سيفوق أضعاف المشاركين من البيئات الأخرى. واستدرك قائلاً «أنني ضد الطائفية بكل أبعادها».
إن مشهديةً من هذا النوع داخل المجلس وخارجه ستزخّم من ضغط الداخل والخارج لإنجاز الاستحقاق الرئاسي وإطلاق دورة الحياة مجدداً في شرايين الدولة اللبنانية. وإلا لا رئاسة قبل العام 2026 إذا ما استمرت الأمور على أحوالها، من المواقف الرخوة، ومن المراهنات على الخارج، هذا اذا لم نصبح في ذلك التاريخ قبله أو بعده، أمام تسويات دولية وإقليمية كبرى يعاد فيها النظر بطبيعة الأنظمة القائمة ديمغرافياً وجغرافياً وإدارياً!