تسلّم الدول الغربية، وبينها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وحتى بقية مكونات اللجنة الخماسية، باستحالة فصل جبهة الجنوب اللبناني عن جبهة غزة، بعد محاولات كثيرة قادتها كلّ من واشنطن وباريس لإستئصال الرابط بين المواجهتيْن، ولكن باءت كلّها بالفشل في ظلّ إصرار «حزب الله» على استمرار خوضه المعركة طالما أنّ غزة تحت النار. وعليه، بات وقف إطلاق النار، أو أقله الهدنة، هو الحدث المفصلي الذي يُراد أن يكون يومه التالي مغايراً لما قبله.
وبنتيجة هذا الربط العضوي، بات من الصعب جداً إحداث خرق في الملف الرئاسي بعدما تعاظمت التعقيدات المحلية والخارجية بشكل يحول دون إخراج الرئاسة اللبنانية من عنق الانسداد السياسي الذي تسببه الخلافات الداخلية كما غياب التقاطعات الإقليمية. وهو أمرٌ يدركه جيداً سفراء المجموعة الخماسية، ولكن هذا لا يمنعهم أبداً من المواظبة على تزخيم مبادرتهم وتعزيز جهودهم لملاقاة أي تطور استثنائي في المنطقة قد ينعكس انفراجة معينة في لبنان.
وفق المعنيين، لا يخرج تحرّك سفراء الخماسية من إطار تكثيف الضغوط لفكفكة العقد الداخلية بانتظار حصول وقف إطلاق نار، أو حتى هدنة في غزة من شأنها أن تفتح باب المفاوضات على مصراعيه، بحيث أنّ الديبلوماسيين الخمسة باتوا متيقنين أنّ تحقيق الخرق على مستوى الرئاسة اللبنانية، صعب جداً اذا لم تهدأ الأعمال العسكرية، ولكن حين تهدأ المعارك، يفترض أن يكون لبنان جاهزاً للمسار الديبلوماسي أولاً لتفعيل المفاوضات الحدودية، بعدما قطعت شوطاً مهماً قادها الموفد الأميركي آموس هوكشتاين مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويفترض أن يكون في بيروت وفق المعنيين، في اليوم التالي لوقف الأعمال الحربية لإجراء النقاشات الأخيرة للوضع الأمني في الجنوب وترتيبات ما بعد الحرب.
يضيف المعنيون أنّ ملامح ما بعد وقف إطلاق النار أو الهدنة، باتت معروفة بالنسبة للمتعاطين بالملف اللبناني لا سيما من جهة مكونات اللجنة الخماسية، حيث يعتقد هؤلاء أنّ ترتيبات الوضع في الجنوب، لن تكون صعبة التحقيق ويرجّح إنجازها سريعاً تحت عنوان تطبيق القرار 1701 بما يتضمن ذلك من توسيع نطاق إنتشار الجيش في الجنوب إلى جانب «اليونيفيل»، وتثبيت الحدود البرية بعد معالجة النقاط الـ13 المتحفّظ عليها من الجانب اللبناني والشطر الشمالي من قرية الغجر والنقطة B1 عند رأس الناقورة، ووقف الطلعات الإسرائيلية، مع العلم أنّ «حزب الله» قد يسعى إلى إدراج بنود إضافية على جدول الأعمال تتصل بإعادة إعمار الجنوب والسماح لشركات غير توتال في المشاركة بأعمال الاستكشاف البحرية عن الغاز اللبناني.
خلع القفل
ويرى هؤلاء أنّ تحقيق الإستقرار الأمني في الجنوب قد يكون مفتاحاً لخلع «قفل» الرئاسة الأولى انطلاقاً من عوامل عدة أو مؤشرات:
– صارت القناعة راسخة أنّ معادلة التعطيل المقيمة راهناً، سواء من جهة الثنائي المتمسّك بترشيح رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية أو من جهة معارضيه، لا سيما المسيحيين منهم الرافضين لهذا الترشيح، يستحيل أن تفتح باب مجلس النواب لانتخاب رئيس. وبالتالي لإنجاز الرئاسة لا بدّ من معادلة جديدة اذا كانت هناك نيّة جديدة لانتخاب رئيس واستنهاض الوضع الاقتصادي وعدم الرهان على متغيّرات إقليمية كبيرة.
– حسمت اللجنة الخماسية اللغط الذي كان دائراً حول خياراتها بعدما وثّقت باللغات الثلاث وبعد اجتماع استضافته السفيرة الأميركية ليزا جونسون، لجهة التأكيد على ضرورة انتخاب رئيس «متفق عليه على نطاق واسع»، وهو ما يعني بلغة الأرقام، كما يؤكد المعنيون، رفض الخماسية لرئيس الـ65 صوتاً وتغليب منطق أكثرية الثلثين أي رئيس الـ86 صوتاً وما فوق، يحوز بالحدّ الأدنى، تأييد طرف مسيحي وعدم ممانعة الآخر. وبالتالي، فقد استبعدت الخماسية خيار مرشح مرفوض من القوى المسيحية، كما خيار المرشح المرفوض من المحور الآخر.
– خلافاً للمراحل السابقة، تبدي الولايات المتحدة الأميركية اهتماماً بالملف اللبناني بعدما أنهت الخلاف الذي كان قائماً بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية حول هوية الجهة التي ستتولى الملف الرئاسي في ضوء رغبة هوكشتاين في ضمّه إلى ملف المفاوضات الحدودية، حيث استقرّ الرأي على إسناد الملف الرئاسي لوزارة الخارجية عبر نائبة الوزير لشؤون منطقة الشرق الأدنى باربرا ليف. من هنا، استضافت السفيرة الأميركية الاجتماع الأخير لزملائها في الخماسية وجرى تسطير بيان، قد يكون الأكثر تفصيلاً في مسار هذه المجموعة والأكثر انخراطاً في هذا الملف، الأمر الذي يحمل رمزية سياسية بفعل صدور البيان بعد الاجتماع الذي حصل في عوكر، في السفارة الأميركية.
– قد تؤمّن الترتيبات الأمنية في الجنوب والتي يفترض أن تكون بداية مرحلة مستدامة طويلة الأمد، شبيهة بمرحلة 2006- 2023، بعض الضمانات التي يبحث عنها «حزب الله» في رئاسة الجمهورية عندما يقول مسؤولوه إنّهم يريدون رئيساً لا يطعن المقاومة، ما قد يفتح الباب أمام خيارات جديدة.
– يعود الموفد الفرنسي جان- ايف لودريان يوم الثلثاء المقبل في 28 الجاري إلى بيروت هذه المرة مستظلاً تفاهماً جديداً مع الإدارة الأميركية حول ضرورة إنجاز الملف الرئاسي في لبنان، وبعدما جرى التفاهم بين الإدارتين حول كيفية توزيع الأدوار والمهام بينهما. وهذا ما يفسّر التزخيم الذي يبديه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حيال الملف اللبناني الذي حضر في اتصاله مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وينتظر أن يكون على جدول أعمال لقائه مع الرئيس الأميركي جو بايدن في السادس من حزيران المقبل لمناسبة إحياء ذكرى معركة النورماندي.
بناء عليه، ينتظر أن يعقد لودريان سلسلة لقاءات مع مسؤولين وقوى لبنانية لمناقشة نتائج الإجابات التي خطّتها هذه الأطراف وتمّ توثيقها في ما خصّ مواصفات رئيس الجمهورية وبرنامج عمله، للخروج بخلاصة واحدة تحدد هذين المعيارين، لتكون غربلة الترشيحات على أساس هذين المعيارين. الأكيد أنّ لودريان لن يحقق خرقاً نوعياً، ولكنه سيخلص إلى أنّ الجامع المشترك بين تلك الإجابات سيقود إلى ضرورة البحث عن خيار ثالث، ليكون الانتقال رسمياً إلى هذا المربّع.