مع اقتراب الرئيس باراك أوباما من نهاية فترة رئاسته٬ تتنامى التكهنات بخصوص التغييرات التي من المحتمل أن تطرأ على السياسة الخارجية الأميركية في ظل خليفته. في الواقع٬ ليس من السهل التخمين بهذا الأمر.
من بين المشكلات الكامنة وراء محاولة تخمين هذه التغييرات٬ أن السياسة الخارجية لا تظهر كثيًرا في الحملات الانتخابية المشتعلة حالًيا. وعليه٬ لا يتوافر سوى القليل من المؤشرات على ما قد يفعله أو لا يفعله مرشح ما حال وصوله لسدة الحكم.
وتتمثل مشكلة أخرى فيما يخص الحملات الانتخابية الرئاسية الحالية في أنها لا تزال عرضة لظهور مفاجآت. على الجانب الديمقراطي٬ غالًبا ما يجري النظر إلى هيلاري كلينتون باعتبارها المرشح «المحتوم» عن الحزب٬ نظرًيا على الأقل. ومع ذلك٬ يبقى من غير المؤكد على الإطلاق نجاحها في الحصول على دعم كاف يمكنها من تجاهل الجناح الأكثر راديكالية داخل حزبها الذي يقوده السيناتور بيرني ساندرز.
بيد أنه على الجانب الجمهوري٬ ورغم أنه نادًرا ما يوصف بأنه المرشح «المحتوم»٬ يبدو دونالد ترامب الأوفر حًظا لنيل ترشيح الحزب له في انتخابات الرئاسة.
ومع ذلك٬ فإنه حتى لو أصبح المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية٬ تبقى الشكوك محيطة بقدرته على فرض رؤيته. في المقابل٬ نجد أن كلينتون تملك خبرة كافية في الشؤون الخارجية والأمن الوطني تمكنها على الأقل من معرفة القضايا الرئيسية.
أما ترامب٬ فكونه مستجًدا بالنسبة لمجالي الأمن الوطني والسياسة الخارجية٬ فإنه سيكون أكثر اعتماًدا على فريق العمل المعاون له٬ خاصة نائب الرئيس٬ في صياغة وتنفيذ استراتيجية جديدة.
وتبقى هناك فرصة٬ وإن كانت ضئيلة٬ أن تنجح حملة «أوقفوا ترامب» التي يشنها أعضاء من الحزب الجمهوري في طرح مرشح جديد على الساحة. ومع ذلك٬ فإنه حتى حال حدوث ذلك٬ فإن المرشحين الآخرين المحتملين السيناتور تيد كروز والحاكم جون كاسيك لا يملك أي منهما معرفة كافية بشؤون السياسة الخارجية والأمن الوطني تمكنه من صياغة استراتيجية جديدة خاصة به.
بناًء على الدلائل الشحيحة التي ظهرت خلال الحملات الانتخابية الراهنة٬ يبدو أنه حال توليها رئاسة البلاد٬ ستعمل هيلاري كلينتون لإعادة توجيه السياسة الخارجية الأميركية نحو قنواتها الكلاسيكية. وقد تبدي كلينتون الحذر في تصرفاتها٬ لكنها تبقى ذات شخصية تتميز بالتصميم٬ وإن كانت قطًعا ليست من المبتكرين.
وتشير جميع المؤشرات إلى أن الروابط مع أوروبا واليابان سيجري تعزيزها٬ في الوقت الذي ستقدم الولايات المتحدة الدعم لحلف «الناتو» بهدف إصلاح الضرر الذي لحق به في ظل إدارة أوباما.
فيما يخص ترامب٬ فإن الدلائل القائمة أكثر ندرة٬ لكن المعروف أن رجل الأعمال البارز بمجال العقارات والذي تحول لاحًقا إلى العمل السياسي وجه انتقادات ساخرة في أوقات مختلفة إلى «الناتو» والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك٬ فإنه لم يلمح إلى أنه حال توليه الرئاسة سيسعى لتقليص نفوذ أي منهما.
من ناحية أخرى٬ لمح كل من ترامب وكلينتون بالفعل إلى أنهما سيتخليان عن سياسة الانسحاب الاستراتيجي التي أطلقها أوباما في وجه مجموعة تحديات متنوعة٬ بينها روسيا داخل أوروبا٬ وإيران والصين في أقصى الشرق. إلا أن أًيا منهما لم يلمح إلى كيف ينتوي تحقيق ذلك.
إلا أن الأمر المؤكد يبقى أنه بغض النظر عن هوية الرئيس القادم٬ من غير المحتمل أن يجري تبديل مسار السياسات الأميركية على الفور٬ وإنما سيحتاج الرئيس الجديد إلى قرابة العام لإنجاز اختيار أعضاء إدارته وتحقيق إجماع حول التغييرات الكبرى المطلوب إدخالها على السياسات الأميركية.
أما الخطوة التالية فستكون السعي نحو بناء أو إحياء الاتصالات عبر مختلف أرجاء العالم٬ على أمل بث الطمأنينة في صفوف الحلفاء القدامى وإيجاد آخرين جدد.
يذكر أنه بسبب مناورات أوباما الغريبة٬ وصل مستوى الثقة بالولايات المتحدة حالًيا إلى أدنى مستوياته منذ عقود٬ خاصة داخل أوروبا والشرق الأوسط.
كما أن هناك نقطتين٬ قد تكونان أكثر أهمية٬ ينبغي النظر بشأنهما؛ الأولى أن أوباما نجح في تقويض الواقع. ويمكن تشبيه سياسته الخارجية بجهاز «هولوغرام» الذي يوفر صوًرا ثلاثية الأبعاد ويقدم صوًرا مختلفة لدى رؤيتها من زوايا مختلفة.
ويمكن وصف الخطوة «التاريخية» التي اتخذها أوباما حيال كوبا بأنها «هولوغرام»٬ فعند النظر إليها من جانب تبدو بادرة يمكنها معاونة الكوبيين على اتخاذ سبيل أفضل لبلادهم التعسة٬ لكن عند النظر من جانب آخر يبدو الأمر وكأنه دفعة تعزز من الحكم الاستبدادي لعشيرة كاسترو.
ويتمثل «هولوغرام» آخر في الاتفاق النووي مع ملالي إيران٬ فمن زاوية يبدو أن الاتفاق المفصل في 179 صفحة وضع حًدا للطموحات النووية الإيرانية٬ لكن من زاوية أخرى يبدو وكأنه ليس له وجود٬ ناهيك بإعاقته لمساعي إيران لامتلاك ترسانة نووية.
وهناك أمثلة أخرى على تخريب أوباما للواقع٬ مثل ادعائه بأنه نجح في تقييد الأطماع التوسعية لروسيا بعد ضم فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم٬ في الوقت الذي أقر موطئ قدم له في شرق أوكرانيا. ومن المقرر في 11 مايو (أيار)٬ أن يضم بوتين أيًضا أوستيا الجنوبية قبل أن يتحرك لضم أبخازيا في أكتوبر (تشرين الأول).
بالنسبة للصين٬ فإنها ماضية في استراتيجيتها لنشر نفوذها في عشرات الجزر الواقعة إلى الشرق والجنوب منها. ومع ذلك٬ يتفاخر أوباما بأنه بفضل «دبلوماسية القرن الـ٬«21 نجح في إقناع بكين بعدم الإقدام على الاستيلاء على أراض كبيرة من خارجها حتى الآن.
ويرى البعض «هولوغرام» آخر في وثيقة «التعاون الاستراتيجي» المؤلفة من ست نقاط٬ التي أبرمها أوباما مع ثماني دول عربية. عند النظر لهذا الأمر من زاوية ما٬ فإنه يبدو تدشيًنا لتحالف جديد دراماتيكي. إلا أن المشككين يرون أن جميع الوعود التي يحملها مؤجلة حتى عام ٬2017 أي بعد فترة طويلة من خروج أوباما من البيت الأبيض.
كما أن ما أطلق عليه اتفاق «تاريخي» بخصوص البيئة٬ وجرى التفاوض حوله بحماس داخل «نادي الـ21» في باريس٬ يمثل «هولوغراًما» جديًدا٬ فمن زاوية يبدو وكأن أوباما حقق نصًرا تاريخًيا بكل المعاني. ومن زاوية أخرى٬ يبدو الاتفاق مجرد وثيقة بيروقراطية رتيبة٬ مصممة بحيث لا يتعامل معها أحد بجدية حتى بعد بدء «سريانها» عندما أقرت 54 دولة أخيًرا الاتفاق ليصبح جزًءا من قوانينها الوطنية.
وعلى الذين يأملون في أن تتمكن الولايات المتحدة من قلب صفحة أوباما قريًبا التفكير في احتمالية أخرى مقلقة: ماذا لو أن استراتيجية أوباما القائمة على تجاهل القضايا وتجنب الاضطلاع بدور ريادي٬ تتسم بشعبية كبيرة في أوساط الأميركيين؟ ماذا لو أنك كنت قادًرا على خداع عدد كاف من الناس لفترة كافية من الوقت تجعلك تهدر الوقت٬ بينما تنهال عليك الإشادات؟
في الواقع هذه التساؤلات ليست محض خيال٬ وإنما الواضح أن أوباما نجح في إقناع غالبية الأميركيين بأن الخيار الوحيد الذي يملكونه يكمن فيما بين الغزو الكامل لدول أخرى٬ الأمر الذي يخشونه٬ والإذعان لـ«حقيقة» أن المهادنة هي السبيل الوحيد للتعامل مع المستأسدين٬ الأمر الذي يمكن للأميركيين بلعه إذا نجح الرئيس في تزيينه بطبقة من الكلام المعسول المنمق.
وتشير أحدث استطلاعات الرأي٬ التي أجراها معهد «غالوب» في 24 أبريل (نيسان) الحالي٬ إلى تمتع أوباما بنسبة تأييد من جانب الأميركيين تبلغ 51 في المائة وهي نسبة غير مسبوقة لرئيس يمر بالشهور الأخيرة من آخر فترة لولايته. (ويمكنك مقارنة ذلك بنسبة تأييد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند٬ التي بلغت مع اقتراب نهاية ولايته إلى 15 في المائة فقط)!
وعليه٬ فإنه رغم رحيل أوباما٬ فإن تركته قد تبقى معنا لبعض الوقت. لذا٬ فإن الحكمة تقتضي أن نأمل في حدوث الأفضل مع التحسب حيال إمكانية وقوع الأسوأ.