يحاول فخامة رئيس الجمهورية، تذكيرنا دائماً بأنه رجل المبادئ الذي يرفض التسويات، وبأنه الرئيس القوي الذي لا يستطيع أحدٌ انتزاع توقيعه، فهو العنيد الذي لا يساوم، متناسياً أنه أبرم تسويات عدة، في كنيسة مار مخايل مع الحزب العظيم، وفي معراب مع رئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، ومع الرئيس سعد الدين الحريري الذي فضّل المصلحة الوطنية اللبنانية على مصالحه الشخصية…
لقد فعل فخامته كل هذا، رغم أنّ هذه التسويات كانت على حساب التنازلات منه، فكان ثمن الصفقات مُغَلّفاً بشعارات حماية السيادة والاستقلال والدستورية والميثاقية.
وأذكر هنا ما قاله فخامته أمام الاجتماع الأمني الموسّع في القصر الجمهوري، مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية مجدداً في شوارع لبنان ليعبّر اللبنانيون عن الشكوى من تدهور أحوالهم المالية وانهيار مستوى معيشتهم… لقد أشار فخامته في الاجتماع المذكور الى أنّ الاحتجاجات لا هدف لها إلاّ النيل من عهده «القوي»، لدفعه الى الاستقالة، وهو لن يغادر قصر بعبدا، حتى بعد انتهاء ولايته إلاّ بعد انتخاب رئيس يتمتّع بشعبية، ويترأس كتلة نيابية كبيرة، وهو يقصد بالتأكيد صهره المدلّل جبران باسيل. وأضاف فخامته جملته التي باتت مشهور: لن أسلّم لبنان إلى الفراغ.
يا جماعة… فخامته لن يغادر قصر بعبدا، إلاّ بعد أن يطمئن على مستقبل «الصهر» وأنّ الصهر آتٍ رئيساً ليرث «بعبدا» وما فيها ومن عليها.
لقد دخل فخامته الى قصر بعبدا بعد نحو 29 سنة من الانتظار، بعد أن أخرج منه عام 1989، هارباً بالبيجاما، تاركاً زوجته وبناته الثلاث… والقصة صارت معروفة للقاصي والداني…
دخل فخامته قصر بعبدا وتمترس فيه على رأس حكومة عسكرية مبتورة، فقدت نصابها القانوني وميثاقيتها خلال دقائق معدودات من تشكيلها، بسبب استقالة جميع الوزراء المسلمين منها وعددهم نصف عدد أعضاء الحكومة. ومن ثمّ قرّر حلّ المجلس النيابي المفترض فيه انتخاب رئيس الجمهورية الذي تعذّر انتخابه. في حين كان مطلوباً منه كرئيس للحكومة الانتقالية تسهيل هذه المهمة. إضافة الى رفضه اتفاق الطائف، الذي كان تسوية عربية دولية لإنهاء الحرب في لبنان، وشنّه حربين داخليتين هما: حرب التحرير وحرب الإلغاء ما أدى الى خسائر فادحة بشرياً ومادياً.
انتخب عون رئيساً عام 2016 وفقاً لاتفاق الطائف نفسه الذي كان قد رفضه عام 1989.
دخل فخامته قصر بعبدا… وهاكم بعض ما جرى ولا يزال يجري في عهده القوي، وعلى يد كتلة لبنان القوي:
أولاً: تجميد قضية تعيين الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية التي عطلتها كتلة «عون» والصهر المدلل، علماً بأنّ المادة 95 من الدستور واضحة، وهي حصرت ضرورة تأمين هذا التوازن بالفئة الأولى دون سواها.
ثانياً: شهد عهد فخامته عمليات تعطيل حكومات ومؤسّسات تحت عنوان «الميثاقية»، هذا التعطيل الذي مارسه «التيار الوطني الحر» طوال سنوات عهده، علماً بأنّ فخامته لم يطبّق الميثاقية -كما ذكرنا- في مرحلة الحكومة العسكرية التي افتقرت الى التمثيل الاسلامي.
ثالثاً: السياسة الخارجية في عهد فخامته «غير شكل». إذ لم يسبق أنْ مَرّ لبنان بهذا المستوى المتدني من الحضور الدولي في تاريخه المعاصر. فعدا عن التراجع غير المسبوق لعلاقاته مع عمقه العربي، أخذت السياسة الخارجية تخرج من سياسة النأي بالنفس، فصار الخطاب الرسمي اللبناني أكثر التصاقاً بموقف محور الممانعة، الذي يحمل عداءً لقوى عربية وهذا ما ثبته الصهر المدلل أيضاً خلال توليه حقيبة وزارة الخارجية.
رابعاً: الاستراتيجية الدفاعية التي وعد الرئيس عون بإطلاق النقاش حولها بعد عام 2018 تبخّرت وصمت فخامته ولا يزال صامتاً لا يتحدث عنها.
خامساً: تجميد التشكيلات القضائية التي أصدرها مجلس القضاء الأعلى، جمّدها كرمى لعيني القاضية غادة عون… فهل هذا معقول؟ لقد أدّى هذا التجميد الى شلّ العمل القضائي تماماً.
سادساً: في المسألة الاقتصادية والاجتماعية، تدهورت الأحوال تماماً. فبالرغم من الوقت الذي أُهدر في مطلع الولاية، وهو يقارب العام ونصف العام، تحت شعار حكومة العهد الأولى كرمى لعيني الصهر، كما اشار فخامته، عاد الرئيس عون ليقول إنّ حكومته الفعلية هي التي ستنبثق عن الانتخابات النيابية.
إنّ فخامته ادعى يوماً انه صاحب «الاصلاح والتغيير» لكنه لم يُطلق قطار الإصلاح جدياً فانهار الاقتصاد وانهارت الليرة و»تهدّم» القطاع المصرفي الذي كنا نفاخر به… وانتشرت المجاعة، وعمّ الفقر، وفُقِد الحليب، ونَدُرَ الخبز وغاب الدواء، فتحوّل لبنان من مستشفى الشرق وجامعته الى بلدٍ لا استشفاء فيه ولا دواء ولا تعليم.
سابعاً: لا يُخفى على أحد ان «أمّ المشاكل» في لبنان هي الكهرباء بفضل صهره ووزراء تياره، كونها تستنزف نحو ملياري دولار سنوياً من المالية العامة. فضلاً عن انها مقطوعة لا تتوافر أكثر من ساعتين في كل المناطق ولا شك في ان هذا الملف الذي كبّد الخزينة أكثر من 45 مليار دولار بات يشكّل إحباطاً جماعياً، وفشلاً للعهد القوي وصهره المدلل.
ثامناً: لقد فاخر العهد وبعض مؤيديه بشعار «العهد القوي» فهل يكون هذا العهد قوياً بعدما أوصل اللبنانيين الى «جهنم» التي وعدنا بها فخامته.
إنّ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، الى جانب الأزمة الاقتصادية، دفعا عشرات المؤسسات للإقفال، والآلاف الى الهجرة.
هذه العوامل، أو فَلْنَقُلْ البعض منها، جعلت لبنان جحيماً… حتى ان أكثرية اللبنانيين باتوا يعتبرون «جهنم» أرحم عليهم، مقارنة بما هم عليه الآن.
● ●
قصة الحمار فوق السطح
وبعيداً عن السياسة وهموم اللبنانيين أتذكر قصة منقولة قرأتها مفادها أنّ رجلاً اشترى حماراً لأوّل مرة في حياته… ومن فرحته بالحمار حمله الى سطح بيته ليريه مساكن قبيلته وعشيرته والطرق والدورب، وعند مغيب الشمس، أراد الرجل أن يُنْزِل الحمار، فرفض الحمار النزول. إذ أعجبه السطح. وحاول صاحبه سحبه بالقوة لكنه رفض أيضاً. ودقّ الحمار أقدامه بين قرميد السطح بقوة، فاهتز البيت المتآكل وانهار تماماً، ومات الحمار. وقف صاحبه أمام جثة الحمار وقال: أنا غلطان لأنني صعدت بك الى السطح.